فصل: تفسير الآيات رقم (94- 97)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏94- 97‏]‏

‏{‏وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏94‏)‏ وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏95‏)‏ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏96‏)‏ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏97‏)‏‏}‏

كرر النهي عن اتخاذ الأيمان ‏{‏دخلاً بينكم‏}‏ تهمماً بذلك ومبالغة في النهي عنه، لعظم موقعه من الدين وتردده في معاشرات الناس، و«الدخل» كما قلنا الغوائل الخدائع، وقوله ‏{‏فتزل قدم بعد ثبوتها‏}‏ استعارة للمستقيم الحال يقع في شر عظيم ويسقط لأن القدم إذا زلت نقلت الإحسان من حال خير إلى حال شر، ومن هذا المعنى قول كثير‏:‏

فلما توافينا ثبت وزلت *** أي تنقلت من حال إلى حال، فاستعار لها الزلل، ومنه يقال لمن أخطأ في شيء‏:‏ زل فيه، ثم توعد بعد بعذاب في الدنيا و‏{‏عذاب عظيم‏}‏ في الآخرة، وقوله ‏{‏بما صددتم عن سبيل الله‏}‏ يدل على أن الآية فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله ‏{‏ولا تشتروا بعهد الله‏}‏ الآية، هذه آية نهي عن الرشا وأخذ الأموال على فعل ما يجب على الأخذ أو تركه، أو فعل ما يجب عليه تركه، فإن هذه هي التي عهد الله إلى عباده فيها، فمن أخذ على ذلك مالاً فقد أعطى عهد الله وأخذ قليلاً من الدنيا، ثم أخبر تعالى أن ما عنده من نعيم الجنة ومواهب الآخرة خير لمن اتقى وعلم واهتدى، ثم بين الفرق بين حال الدنيا وحال الآخرة بأن هذه تنفد وتنقضي عن الإنسان، أو ينقضي عنها، ومنن الآخرة باقية دائمة، وقرأ ابن كثير وعاصم «ولنجزين» بنون، وقرأ الباقون «وليجزين» بالياء ولم يختلفوا في قوله ‏{‏ولنجزينهم‏}‏ أنه بالنون، كذا قال أبو علي، وقال أبو حاتم‏:‏ إن نافعاً روي عنه «وليجزينهم» بالياء، و‏{‏صبروا‏}‏ معناه عن الشهوات وعلى مكاره الطاعة وهذه إشارة إلى الصبر عن شهوة كسب المال بالوجوه المذكورة، وقوله ‏{‏بأحسن‏}‏ أي بقدر أحسن ما كانوا يعملون، وقوله ‏{‏من عمل صالحاً‏}‏ يعم جميع أعمال الطاعة، ثم قيده بالإيمان، واختلف الناس في ‏{‏الحياة الطيبة‏}‏ فقال ابن عباس والضحاك‏:‏ هو الرزق الحلال، وقال الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ هي القناعة وهذا طيب عيش الدنيا، وقال ابن عباس أيضاً‏:‏ هي السعادة، وقال الحسن البصري‏:‏ «الحياة الطيبة» هي حياة الآخرة ونعيم الجنة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهناك هو الطيب على الإطلاق، ولكن ظاهر هذا الوعد أنه في الدنيا، والذي أقول‏:‏ إن طيب الحياة اللازم للصالحين إنما هو بنشاط نفوسهم ونيلها وقوة رجائهم، والرجاء للنفس أمر ملذ، فبهذا تطيب حياتهم وأنهم احتقروا الدنيا فزالت همومها عنهم، فإن انضاف إلى هذا مال حلال وصحة، أو قناعة فذلك كمال، وإلا فالطيب فيما ذكرناه راتب وجاء قوله ‏{‏فلنحيينه‏}‏ على لفظ ‏{‏من‏}‏، وقوله ‏{‏ولنجزينهم‏}‏ على معناها، وهذا وعد بنعيم الجنة، وباقي الآية بين، وحكى الطبري عن أبي صالح أنه قال‏:‏ نزلت هذه الآية بسبب قوم من أهل الملل تفاخروا، وقال كل منهم ملتي أفضل، فعرفهم الله تعالى في هذه الآية أفضل الملل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏98- 103‏]‏

‏{‏فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ‏(‏98‏)‏ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ‏(‏99‏)‏ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ‏(‏100‏)‏ وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏101‏)‏ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ‏(‏102‏)‏ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ‏(‏103‏)‏‏}‏

الفاء في قوله ‏{‏فإذا‏}‏ واصلة بين الكلامين، والعرب تستعملها في مثل هذا، وتقدير الآية فإذا أخذت في قراءة القرآن كما قال عز وجل ‏{‏إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏، وكما تقول لرجل إذ أكلت فَقُل‏:‏ بسم الله، و«الاستعاذة» ندب عند الجميع، وحكى النقاش عن عطاء أن التعوذ واجب، ولفظ الاستعاذة هو على رتبة الآية، وقد ذكرت الخلاف الذي قيل فيه في صدر هذا الكتاب، و‏{‏الرجيم‏}‏ المرجوم باللغة وهو إبليس، ثم أخبر الله تعالى أن إبليس ليس له ملكة ولا رياسة، هذا ظاهر «السلطان» عندي في هذه الآية، وذلك أن «السلطان» إن جعلناه الحجة فليس له حجة في الدنيا على أحد لا مؤمن ولا كافر، اللهم إلا أن يتأول متأول ‏{‏ليس له سلطان‏}‏ يوم القيامة، فيستقيم أن يكون بمعنى الحجة لأن إبليس له حجة على الكافرين أنه دعاهم بغير دليل فاستجابوا له من قبل أنفسهم، وهؤلاء الذين لا سلطان ولا رياسة لإبليس عليهم هم المؤمنون أجمعون، لأن الله لم يجعل سلطانه إلا على المشركين الذين يتولونه، والسلطان منفي هاهنا في الإشراك، إذ له عليهم ملكة ما في المعاصي وهم الذين قال الله فيهم ‏{‏إن عبادي ليس لك عليهم سلطان‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 42‏]‏ وهم الذين قال إبليس فيهم ‏{‏إلا عبادك منهم المخلصين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 40‏]‏، و‏{‏يتولونه‏}‏ معناه يجعلونه ولياً، والضمير فيه يحتمل أن يعود على اسم الله عز وجل، والظاهر أنه يعود على اسم إبليس، بمعنى من أجله وبسببه، كما تقول لمعلمك‏:‏ أنا عالم بك، أي بسببك، فكأنه قال‏:‏ والذين هم بسببه مشركون بالله، وهذا الإخبار بأن لا سلطان للشيطان على المؤمنين بعقب الأمر بالاستعاذة، تقتضي أن الاستعاذة تتصرف كيده، كأنها متضمنة للتوكل على الله والانقطاع إليه، وقوله ‏{‏وإذا بدلنا آية مكان آية‏}‏ كان كفار مكة إذا نسخ الله لفظ آية بلفظ أخرى ومعناها وإن بقي لفظها، لأن هذا كله يقع عليه التبديل، يقولون‏:‏ لو كان هذا من عند الله لم يتبدل، وإنما هو من افتراء محمد، فهو يرجع من خطأ يبدلونه إلى صواب يراه بعد، فأخبر الله عز وجل أنه أعلم بما يصلح للعباد برهة من الدهر، ثم ما يصلح لهم بعد ذلك، وأنهم لا يعلمون هذا، وقرأ الجمهور «ينَزّل» بفتح النون وشد الزاي، وقرأ أبو عمرو بسكون النون وتخفيف الزاي، وعبّر ب «الأكثر» مراعاة لما كان عند قليل منهم من توقف وقلة مبالغة في التكذيب والظن، ويحتمل أن يكون هذا اللفظ قرر على قليل منهم أنهم يعلمون ويكفرون تمرداً وعناداً، وأمر نبيه أن يخبر أن القرآن وناسخه ومنسوخه إنما جبريل عليه السلام وهو ‏{‏روح القدس‏}‏، لا خلاف في ذلك، و‏{‏القدس‏}‏ الموضع المطهر، فكأن جبريل أضيف إلى الأمر المطهر بإطلاق، وسمي روحاً إما لأنه ذو روح من جملة روح الله الذي بثه في خلقه، وخص هو بهذا الاسم، وإما لأنه يجري من الهدايات والرسالات ومن الملائكة أيضاً مجرى الروح من الأجساد لشرفه ومكانته، وقرأ ابن كثير «القدْس» بسكون الدال، وقرأ الباقون «القدُس» بضمها، وقوله ‏{‏بالحق‏}‏ أي مع الحق في أوامره ونواهيه وأحكامه ومصالحه، وأخباره، ويحتمل أن يكون قوله ‏{‏بالحق‏}‏ بمعنى حقاً، ويحتمل أن يريد ‏{‏بالحق‏}‏ في أن ينزل أي أنه واجب لمعنى المصلحة أن ينزل، وعلى هذا الاحتمال اعتراضات عند أصحاب الكلام على أصول الدين، وباقي الآية بين وقوله ‏{‏ولقد نعلم أنهم يقولون‏}‏، قال ابن عباس‏:‏ كان في مكة غلام أعجمي لبعض قريش يقال له بلعام، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمه ويعلمه الإسلام ويرومه عليه فقالت قريش‏:‏ هذا يعلم محمداً من جهة الأعاجم، فنزلت الآية بسببه، وقال عكرمة وسفيان‏:‏ كان اسم الغلام يعيش، وقال عبد الله بن مسلم الحضرمي‏:‏ كان بمكة غلامان أحدهما اسمه جبر والآخر يسار، وكانا يقرآن بالرومية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس إليهما، فقالت قريش ذلك، ونزلت الآية، وقال ابن إسحاق‏:‏ الإشارة إلى جبر، وقال الضحاك‏:‏ الإشارة إلى سلمان الفارسي‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا ضعيف، لأن سلمان إنما أسلم بعد الهجرة بمدة وقرأت فرقة «لسان الذي»، وقرأ الحسن البصري «اللسان الذي» بالتعريف وبغير تنوين في رأي بشر، وقرأ نافع وابن كثير «يُلحدون» بضم الياء من ألحدَ إذا مال، وهي قراءة أبي عمرو وعاصم وابن عامر وأبي جعفر بن القعقاع، وقرأ حمزة والكسائي «يَلحدون» بفتح الياء من لحد، وهي قراءة عبد الله وطلحة وأبي عبد الرحمن والأعمش ومجاهد، وهما بمعنى، ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الرمل‏]‏

قدني من نصر الخبيبين قدي *** ليس أمري بالشحيح الماحد

يريد المائل عن الجود وحال الرياسة، وقوله ‏{‏أعجمي‏}‏ إضافة إلى أعجم لا إلى العجم لأنه كان يقول عجمي، والأعجمي هو الذي لا يتكلم بالعربية، وأما العجمي فقد يتكلم بالعربية ونسبته قائمة، وقوله ‏{‏وهذا‏}‏ إشارة إلى القرآن والتقدير، وهذا سرد لسان، أو نطق لسان، فهو على حذف مضاف، وهذا على أن يجعل اللسان هنا الجارحة، و«اللسان» في كلام العرب اللغة، ويحتمل أن يراد في هذه الآية، واللسان الخبر ومنه قول الأعشى‏:‏ إني أتتني لسان غير كاذبة‏.‏

ومنه قول الآخر‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

لسان السوء يهديها إلينا *** وجيت وما حسبتك أن تجينا

وحكى الطبري عن سعيد بن المسيب أن الذي ذكر الله‏:‏ ‏{‏إنما يعلمه بشر‏}‏، ‏{‏إنما‏}‏ هي إشارة إلى كاتب كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم في أواخر الآيات‏:‏ «والله سميع عليم»، أو «عزيز حكيم»، أو نحو هذا، ثم يشتغل بسماع الوحي، فيبدل هو بغفور رحيم أو نحوه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الآيات‏:‏ هو كما كتبت، ففتن، وقال أنا أعلم محمداً، وارتد ولحق بمكة، ونزلت الآية فيه‏.‏ قال القاضي أبو محمد‏:‏ هذا نصراني أسلم وكتب، ثم ارتد ولحق بمكة ومات، ثم لفظته الأرض، وإلا فهذا القول يضعف لأن الكاتب المشهور الذي ارتد لهذا السبب ولغيره من نحوه هو عبد الله بن أبي سرح العامري، ولسانه ليس بأعجمي فتأمله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏104- 106‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏104‏)‏ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ ‏(‏105‏)‏ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏106‏)‏‏}‏

المفهوم من الوجود أن الذين لا يهديهم الله لا يؤمنون بآياته، ولكنه قدم في هذا الترتيب وأخر، تهمماً بتقبيح فعلهم والتشنيع لخطابهم، وذلك كقوله تعالى ‏{‏فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 5‏]‏ والمراد ما ذكرناه فكأنه قال إن الذين لم يؤمنوا لم يهدهم الله، وقوله‏:‏ ‏{‏إنما يفتري الكذب‏}‏ بمعنى يكذب، وهذه مقاومة للذين قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنما أنت مفتر، و‏{‏إنما‏}‏ أبداً حاصرة، لكن حصرها يختلف باختلاف المعاني التي تقع فيها، فقد يربط المعنى أن يكون حصرها حقيقياً كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما الله إله واحد‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 171‏]‏ وقد يقتضي المعنى أن يكون حصرها تجوزاً ومبالغة، كقولك‏:‏ إنما الشجاع عنترة، وهكذا هي في هذه الآية، قال الزجاج‏:‏ يفتري هذا الصنف لأنهم إذا رأوا الآيات التي لا يقدر عليها إلا الله، كذبوا بها، فهذا أفحش الكذب، وكرر المعنى في قوله‏:‏ ‏{‏وأولئك هم الكاذبون‏}‏ لفائدة إيقاع الصفة بالكذب عليهم إذ الصفة بالشيء أبلغ من الخبر به، لأن الصفة تقتضي الدوام أكثر مما يقتضيه الخبر فبدأ في هذه الآية بالخبر، ثم أكد بالصفة، وقد اعترض هذا النظر مكي، وليس اعتراضه بالقوي، و‏{‏من‏}‏ في قوله ‏{‏من كفر‏}‏ بدل من قوله ‏{‏هم الكاذبون‏}‏ ولم يجز الزجاج غير هذا الوجه لأنه رأى الكلام إلى آخر الاستثناء غير تام فعلقه بما قبله، والذي أبى الزجاج سائغ على ما أورده الآن إن شاء الله‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا يتأكد بما روي من أن قوله ‏{‏وأولئك هم الكاذبون‏}‏ يراد به عبد الله بن أبي سرح ومقيس بن صبابة وأشباههما ممن كان آمن برسول الله ثم ارتد، فلما بين في هذه الآية أمر الكاذبين بأنهم الذين كفروا بعد الإيمان أخرج من هذه الصفة القوم المؤمنون المعذبون بمكة، وهم بلال وعمار وسمية أمه وخباب وصهيب وأشباههم، وذلك أن كفار مكة كانوا في صدر الإسلام يؤذون من أسلم من هؤلاء الضعفة، يعذبونهم ليرتدوا، فربما سامعهم بعضهم بما أرادوا من القول، يروى أن عمار بن ياسر فعل ذلك فاستثناه الله في هذه الآية، وبقيت الرخصة عامة في الأمر بعده، ثم ابتدأ الإخبار‏:‏ «أن من شرح صدراً بالكفر فعليهم»، وهذا الضمير على معنى من لا على لفظها‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وفي هذا من الاعتراض أن أمر ابن أبي سرح وأولئك إنما كان ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، والظاهر من هذه الآية أنها مكية وقالت فرقة ‏{‏من‏}‏ في قوله ‏{‏من كفر‏}‏ ابتداء، وقوله ‏{‏من شرح‏}‏ تخصيص منه، ودخل الاستثناء لما ذكرنا من إخراج عمار وشبهه، وردنا من الاستثناء إلى المعنى الأول الاستدراك ب ‏{‏ولكن‏}‏، وقوله ‏{‏فعليهم‏}‏ خبر ‏{‏من‏}‏ الأولى والثانية، إذ هو واحد بالمعنى، لأن الإخبار في قوله ‏{‏من كفر‏}‏ إنما قصد به الصنف الشارح بالكفر، و‏{‏صدراً‏}‏ نصب على التمييز، وقوله ‏{‏شرح بالكفر صدراً‏}‏ معناه انبسط إلى الكفر باختباره، ويروى أن عمار بن ياسر شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع به من العذاب، وما سامع به من القول، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف تجد قلبك‏؟‏ قال‏:‏ أجده مطمئناً بالإيمان، قال فأجبهم بلسانك فإنه لا يضرك وإن عادوا فعد‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويتعلق بهذه الآية شيء من مسائل الإكراه؛ أما من عذبه كافر قادر عليه ليكفر بلسانه، وكان العذاب يؤدي إلى قتله فله الإجابة باللسان، قوْلاً واحداً فيما أحفظ، فإن أراد منه الإجابة بفعل كالسجود إلى صنم ونحو ذلك ففي هذا اختلاف، فقالت فرقة هي الجمهور‏:‏ يجيب بحسب التقية، وقالت فرقة‏:‏ لا يجيب ويسلم نفسه، وقالت فرقة‏:‏ إن كان السجود نحو القبلة أجاب، واعتقد السجود لله‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وما أحراه أن يسجد لله حينئذ حيثما توجه، وهذا مباح في السفر لتعب النزول عن الدابة في التنفل، فكيف لهذا، وإذا احتجت فرقة المنع بقول ابن مسعود‏:‏ ما من كلام يدرأ عني سوطين من ذي سلطان إلا كنت متكلماً به، فقصر الرحمة على القول، ولم يذكر الفعل‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وليس هذا بحجة لأنه يحتمل أن جعل الكلام مثالاً وهو يريد أن الفعل في حكمه، فأما الإكراه على البيع والإيمان والطلاق والعتق والفطر في رمضان وشرب الخمر ونحو هذا من المعاصي التي بين العبد والله عز وجل، فلا يلزم المكره شيء من ذلك، قاله مطرف، ورواه عن مالك، وقاله ابن عبد الحكم وأصبغ، وروياه عن ابن القاسم عن مالك، وفرق ابن عباس بين ما هنا قول كالعتق والطلاق فجعل فيها التقية، وقال‏:‏ لا تقية فيما كان فعلاً كشرب الخمر والفطر في رمضان، ولا يحل فعلها لمكره، فأما المظلوم يضغط حتى يبيع متاعه فذلك بيع لا يجوز عليه، وهو أولى بمتاعه يأخذه بلا ثمن، ويتبع المشتري بالثمن ذلك الظالم، فإن أفات المتاع رجع بثمنه أو بقيمته بالأكثر من ذلك على الظالم إذا كان المشتري غير عالم بظلمه، قال مطرف‏:‏ ومن كان من المشترين يعلم حال المكره فإنه ضامن لما ابتاع من رقيقه وعروضه كالغاصب، وأما من لا يعلم فلا يضمن العروض والحيوان وإنما يضمن ما كان تلفه بسببه مثل طعام أكله أو ثوب لبسه، والغلة إذا علم أو لم يعلم ليست له بحال، هو لها ضامن كالغاصب، وقاله أصبغ وابن عبد الحكم، قال مطرف‏:‏ وكل ما أحدث المبتاع في ذلك من عتق أو تدبير أو تحبيس فلا يلزم المكره، وله أخذ متاعه، وأما الإكراه على قتل مسلم أو جلده أو أخذ ماله أو بيع متاعه فلا عذر فيه، ولا استكراه في ركوب معصية تنتهك مثل حد كالزنا والقتل أو نحوه، قال مطرف وأصبغ وابن عبد الحكم‏:‏ لا يفعل أحد ذلك وإن قتل إن لم يفعله، فإن فعل فهو آثم، ويلزمه الحد والقود، قال مالك‏:‏ والقيد إكراه، والسجن إكراه، والوعيد المخوف إكراه وإن لم يقع إذا تحقق ظلم ذلك المتعدي وإِنقاذه لما يتوعد‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويعتبر الإكراه عندي بحسب همة المكره وقدره في الدين، وبحسب قدر الشيء الذي يكره عليه، فقد يكون الضرب إكراهاً في شيء دون شيء، فلهذه النوازل فقه الحال، وأما يمين المكره كما قلنا فهي غير لازمة، قال ابن الماجشون‏:‏ وسواء حلف فيما هو لله طاعة، أو فيما هو لله معصية، أو فيما ليس في فعله طاعة ولا معصية، فاليمين فيه ساقطة، وإن أكره على اليمين فيما هو طاعة مثل أن يأخذ الوالي رجلاً فاسقاً فيكرهه أن يحلف بالطلاق أن لا يشرب خمراً أو لا يفسق أو لا يغش في عمله، أو الوالد يحلف ولده في مثل هذا تأديباً له، فإن اليمين تلزم، وإن كان المكره قد أخطأ فيما تكلف من ذلك، وقال به ابن حبيب، وأما إن أكره رجل على أن يحلف وإلا أخذ له مال كأصحاب المسكن وظلمة السعاة وأهل الاعتداء، فقال مطرف‏:‏ لا تقية في ذلك، وإنما يدرأ المرء بيمينه عن بدنه لا عن ماله، وقال ابن الماجشون‏:‏ لا يحنث وإن درأ عن ماله ولم يخف على بدنه، وقال ابن القاسم بقول مطرف، ورواه عن مالك، وقاله ابن عبد الحكم وأصبغ وابن حبيب، قال مطرف وابن الماجشون‏:‏ وإن بدر الحالف يمينه للوالي الظالم قبل أن يسألها ليذب بها عما خاف عليه من بدنه وماله فحلف له فإنه يلزمه، قاله ابن عبد الحكم وأصبغ، وقال أيضاً ابن الماجشون فيمن أخذه ظالم فحلف له بالطلاق البتة من غير أن يحلفه وتركه وهو كاذب وإنما حلف خوفاً من ضربه أو قتله أو أخذ ماله فإن كان إنما يتبرع باليمين غلبة خوف ورجاء النجاة من ظلمه فقد دخل في الإكراه ولا شيء عليه، وإن لم يحلف على رجاء النجاة فهو حانث، وإذا اتهم الوالي أحداً بفعل أمر فقال لا بد من عقوبتك إلا أن تحلف لي، فإن كان ذلك الأمر مما لذلك المكروه فعله إما أن يكون طاعة وإما أن يكون لا طاعة ولا معصية، فالتقية في هذا، وأما إن كان ذلك الأمر مما لا يحل لذلك الرجل فعله ويكون نظر الوالي فيه صواباً فلا تقية في اليمين، وهو حانث، قاله مالك وابن الماجشون‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فهذه نبذة من مسائل الإكراه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏107- 111‏]‏

‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ‏(‏107‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ‏(‏108‏)‏ لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏109‏)‏ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏110‏)‏ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏111‏)‏‏}‏

قوله ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى الغضب والعذاب الذي توعد به قبل هذه الآية، والضمير في ‏{‏أنهم‏}‏ ل ‏{‏من شرح بالكفر صدراً‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 106‏]‏، ولما فعلوا فعل من استحب ألزموا ذلك وإن كانوا مصدقين بآخرة لكن الأمر في نفسه بين، فمن حيث أعرضوا عن النظر فيه كانوا كمن استحب غيره، وهذه الآية علق فيها العقاب بتكسبهم وذلك أن استحبابهم زينة الدنيا ولذات الكفر هو التكسب، وقوله ‏{‏وأن الله لا يهدي‏}‏ إشارة إلى اختراع الله تعالى الكفر في قلوبهم، ولا شك أن كفر الكافر الذي يتعلق به العقاب إنما هو باختراع من الله تعالى وتكسب من الكافر، فجمعت الآية بين الأمرين، وعلى هذا مرت عقيدة أهل السنة، وقوله ‏{‏لا يهدي القوم الكافرين‏}‏ عموم على أنه لا يهديهم من حيث إنهم كفار في نفس كفرهم، أو عموم يراد به الخصوص فيمن يوافي، وقوله ‏{‏أولئك الذين طبع الله على قلوبهم‏}‏ الآية، عبارة عن صرف الله لهم عن طريق الهدى، واختراع الكفر المظلم في قلوبهم، وتغليب الإعراض على نظرهم، فكأنه سد بذلك طرق هذه الحواس حتى لا ينتفع بها في اعتبار وتأمل، وقد تقدم القول وذكر الاختلاف في الطبع والختم في سورة البقرة، وهل هو حقيقة أو مجاز‏؟‏ و«السمع» اسم جنس وهو مصدر في الأصل، فلذلك وحد، ونبه على تكسبهم الإعراض عن النظر، فوصفهم ب «الغفلة»، وقد تقدم شرح ‏{‏لا جرم‏}‏ في هذه السورة، وقوله ‏{‏ثم إن ربك للذين هاجروا‏}‏ الآية، قال ابن عباس‏:‏ كان قوم من أهل مكة أسلموا وكانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، فأصيب بعضهم، فقال المسلمون‏:‏ كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا، فاستغفروا لهم، فنزلت ‏{‏إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 97‏]‏ إلى آخر الآية قال‏:‏ وكتب بها إلى من بقي بمكة من المسلمين وأن لا عذر لهم، فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة فنزلت ‏{‏ومن الناس من يقول آمنا بالله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 8 العنكبوت‏:‏ 10‏]‏ إلى آخر الآية، فكتب المسلمون إليهم بذلك فخرجوا ويئسوا من كل خير، ثم نزلت فيهم‏:‏ ‏{‏ثم إن ربك للذين هاجروا‏}‏ الآية، فكتبوا إليهم بذلك أن الله قد جعل لكم مخرجاً فأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا، وقتل من قتل‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ جاءت هذه الرواية هكذا أن بعد نزول الآية خرجوا فجيء الجهاد الذي ذكر في الآية جهادهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وروت طائفة أنهم خرجوا وأتبعوا، وجاهدوا متبعيهم، فقتل من قتل، ونجا من نجا فنزلت الآية حينئذ، فعنى بالجهاد المذكور جهادهم لمتبعيهم، وقال ابن إسحاق‏:‏ ونزلت هذه الآية في عمار بن ياسر وعياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وذكر عمار في هذا عندي غير قويم، فإنه أرفع من طبقة هؤلاء، وإنما هؤلاء من شرح بالكفر صدراً فتح الله لهم باب التوبة في آخر الآية، وقال عكرمة والحسن‏:‏ نزلت هذه الآية في شأن عبد الله بن أبي سرح وأشباهه، فكأنه يقول من بعد ما فتنهم الشيطان وهذه الآية مدَنية، ولا أعلم في ذلك خلافاً، وإن وجد فهو ضعيف، وقرأ الجمهور «من بعد ما فُتِنوا» بضم الفاء وكسر التاء، وقرأ ابن عامر وحده «فَتَنوا» بفتح الفاء والتاء، فإن كان الضمير للمعذبين فيجيء بمعنى فتنوا أنفسهم بما أعطوا للمشركين من القول، كما فعل عمار، وإن كان الضمير للمعذبين فهو بمعنى من بعد ما فتنهم المشركون، وإن كان الضمير للمشركين فهو بمعنى من بعد ما فتنهم الشيطان، والضمير في ‏{‏بعدها‏}‏ عائد على الفتنة، أو على الفعلة، أو الهجرة، أو التوبة، والكلام يعطيها، وإن لم يجر لها ذكر صريح، وقوله ‏{‏يوم تأتي كل نفس‏}‏ المعنى لغفور رحيم يوم، وقوله‏:‏ ‏{‏كل نفس‏}‏ أي كل ذي نفس، ثم أجري الفعل على المضاف إليه المذكور، فأتت العلامة، و‏{‏نفس‏}‏ الأولى هي النفس المعروفة، والثانية هي بمعنى الذات، كما تقول نفس الشيء وعينه أي ذاته، ‏{‏وتوفى كل نفس‏}‏ أي يجازى كل من أحسن بإحسانه وكل من أساء بإساءته‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وظاهر الآية أن كل نفس ‏{‏تجادل‏}‏ كانت مؤمنة أو كافرة، فإذا جادل الكفار بكذبهم وجحدهم للكفر شهدت عليهم الجوارح والرسل وغير ذلك بحسب الطوائف، فحينئذ لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون، فتجتمع آيات القرآن باختلاف المواطن، وقالت فرقة‏:‏ «الجدال» قول كل أحد من الأنبياء وغيرهم‏:‏ نفسي نفسي، وهذا ليس بجدال ولا احتجاج إنما هو مجرد رغبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏112- 114‏]‏

‏{‏وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ‏(‏112‏)‏ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ‏(‏113‏)‏ فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ‏(‏114‏)‏‏}‏

قال ابن عباس ومجاهد وابن زيد وقتادة والقرية المضروب بها المثل مكة كانت بهذه الصفة التي ذكر الله لأنها كانت لا تغزى ولا يغير عليها أحد‏.‏ وكانت الأرزاق تجلب إليها، وأنعم الله عليها رسوله والمراد بهذه الضمائر كلها أهل القرية، فكفروا بأنعم الله في ذلك وفي جملة الشرع والهداية، فأصابتهم السنون والخوف، وسرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وغزواته، هذا إن كانت الآية مدنية وإن كانت مكية فجوع السنين وخوف العذاب من الله بحسب التكذيب‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وإن كانت هي التي ضربت مثلاً فإنما ضربت لغيرها مما يأتي بعدها ليحذر أن يقع فيما وقعت هي فيه، وحكى الطبري عن حفصة أم المؤمنين أنها كانت تسأل في وقت حصر عثمان بن عفان رضي الله عنه ما صنع الناس وهي صادرة من الحج من مكة، فقيل لها قتل فقالت‏:‏ والذي نفسي بيده، إنها القرية تعني المدينة التي قال الله لها، ‏{‏وضرب الله مثلاً‏}‏ الآية‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فأدخل الطبري هذا على أن حفصة قالت‏:‏ إن الآية نزلت في المدينة وإنها هي التي ضربت مثلاً، والأمر عندي ليس كذلك وإنما أرادت أن المدينة قد حصلت في محذور المثل وحل بها ما حل بالتي جعلت مثلاً، وكذلك يتوجه عندي في الآية أنها قصد بها قرية غير معينة، جعلت مثلاً لكة على معنى التحذير لأهلها ولغيرها من القرى إلى يوم القيامة، و‏{‏رغداً‏}‏ نصب على الحال و‏{‏أنعم‏}‏ جمع نعمة كشدة وأشد كذا قال سيبويه وقال قطرب ‏{‏أنعم‏}‏ جمع نعم وهي التنعيم، يقال هذه أيام طعم ونعم وقوله ‏{‏فأذاقها الله لباس الجوع‏}‏ استعارات أي لما باشرهم ذلك صار كاللباس وهذا كقول الأعشى‏:‏ ‏[‏المتقارب‏]‏

إذا ما الضجيع ثنى جيدها *** تثنّتْ عليه فصارت لباسا

ونحوه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هن لباس لكم وأنتم لباس لهن‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏، ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وقد لبست بعد الزبير مجاشع *** ثياب التي حاضت ولم تغسل الدما

كأن العار لما باشرهم وألصق بهم جعلهم لبسوه، قوله «أذاقها» نظير قوله تعالى ‏{‏ذق إنك أنت العزيز الكريم‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 49‏]‏ ونظير قول الشاعر‏:‏

دونك ما جنيته فأحسن وذق *** وقرأ الجمهور‏:‏ «والخوفِ» عطفاً على ‏{‏الجوع‏}‏ وقرأ أبو عمرو‏:‏ بخلاف عنه «والخوفَ» عطفاً على قوله ‏{‏لباس‏}‏، وفي مصحف أبي بن كعب «لباس الخوف والجوع»، وقرأ ابن مسعود، «فأذاقها الله الخوف والجوع» ولا بذكر ‏{‏لباس‏}‏، والضمير في ‏{‏جاءهم‏}‏ لأهل مكة، والرسول محمد صلى الله عليه وسلم، و‏{‏العذاب‏}‏ الجوع وأمر بدر ونحو ذلك إن كان التمثيل بمكة وكانت الآية مدنية، وإن كانت مكية فهو الجوع فقط، وذكر الطبري أنه القتل ببدر، وهذا يقتضي أن الآية نزلت بالمدينة، وإن كان التمثيل بمدينة قديمة غير معينة، فيحتمل أن يكون الضمير في ‏{‏جاءهم‏}‏ لأهل تلك المدينة، ويكون هذا مما جرى فيها كمدينة شعيب وغيره ويحتمل أن يكون الضمير المذكور لأهل مكة وتأمل‏.‏

وقوله ‏{‏فكلوا مما رزقكم الله‏}‏ الآية، هذا ابتداء كلام آخر، ومعنى حكم، والفاء في قوله ‏{‏فكلوا‏}‏ الصلة الكلام واتساق الجمل خرج من ذكر الكافرين والميل عليهم إلى أمر المؤمنين بشرع ما فوصل الكلام بالفاء وليست المعاني موصولة، هذا قول، والذي عندي أن الكلام متصل المعنى، أي وأنتم المؤمنون لستم كهذه القرية، ‏{‏فكلوا‏}‏ واشكروا الله على تباين حالكم من حال الكفرة وهذه الآية هي بسبب أن الكفار كانوا سنوا في الأنعام سنناً وحرموا بعضاً وأحلوا بعضاً فأمر الله تعالى المؤمنين بأكل جميع الأنعام التي رزقها الله عباده وقوله ‏{‏حلالاً‏}‏ حال، وقوله ‏{‏طيباً‏}‏ أي مستلذاً، ووقع النص في هذا على المستلذات ففيه ظهور النعمة وهو عظم النعم وإن كان الحلال قد يكون غير مستلذ، ويحتمل أن يكون الطيب بمعنى الحلال وكرره مبالغة وتوكيداً وباقي الآية بين، قوله ‏{‏إن كنتم إياه تعبدون‏}‏ إقامة للنفوس كما تقول الرجل‏:‏ إن كنت من الرجال فافعل كذا، على معنى إقامة نفسه، وذكر الطبري‏:‏ أن بعض الناس قال نزلت هذه الآية خطاباً للكافر عن طعام كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إليهم في جوعهم، وأنحى الطبري على هذا القول وكذلك هو فاسد من غير وجه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏115‏]‏

‏{‏إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏115‏)‏‏}‏

حصرت ‏{‏إنما‏}‏ هذه المحرمات وقت نزول الآية، ثم نزلت المحرمات بعد ذلك وقرأ جمهور الناس‏:‏ «الميْتة»، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع‏:‏ «الميّتة» وهذا هو الأصل وتخفيف الياء طارئ عليه، والعامل في نصبها ‏{‏حرم‏}‏، وقرأت فرقة «الميتةُ» بالرفع على أن تكون ‏{‏ما‏}‏ بمعنى الذي‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وكون ‏{‏ما‏}‏ متصلة ب ‏{‏إن‏}‏ يضعف هذا ويحكم بأنها حاصرة و‏{‏ما‏}‏ كافة، وإذا كانت بمعنى الذي فيجب أن تكون منفصلة، وذلك خلاف خط المصحف، وقرأ الجمهور «حرم» على معنى حرم الله، وقرأت فرقة «حُرِّم» على ما لم يسم فاعله، وهذا برفع «الميتةُ» ولا بد‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ و‏{‏الميتة‏}‏ المحرمة هي ما مات من حيوان البر الذي له نفس سائلة حتف أنفه، وأما ما ليس له نفس سائلة كالجراد والبراغيث والذباب ودود التين وحيوان الفول وما مات من الحوت حتف أنفه وطفا على الماء ففيه قولان في المذهب، وما مات حتف أنفه من الحيوان الذي يعيش في الماء وفي البر كالسلاحف ونحوها ففيه قولان والمنع هنا أظهر إلا أن يكون الغالب عليه العيش في الماء ‏{‏والدم‏}‏ المحرم هو المنسفح الذي يسيل إن ترك مفرداً وأما ما خالط اللحم وسكن فيه فحلال طبخ ذلك اللحم فيه، ولا يكلف أحد تتبعه، ودم الحوت مختلف فيه وإن كان ينسفح لو ترك، ‏{‏ولحم الخنزير‏}‏ هو معظمه والمقصود الأظهر فيه، فلذلك خصه بالذكر، وأجمعت الأمة على تحريم شحمه وغضاريفه ومن تخصيصه استدلت فرقة على جواز الانتفاع بجلده إذا دبغ ولبسه، والأولى تحريمه جملة، وأما شعره فالانتفاع به مباح، وقالت فرقة ذلك غير جائز، والأول أرجح، وقوله‏:‏ ‏{‏وما أهل لغير الله به‏}‏ يريد كل ما نوي بذبحه غير التقرب إلى الله والقرب إلى سواه، وسواء تكلم بذلك على الذبيحة أو لم يتكلم، لكن خَرجت العبارة عن ذلك ب ‏{‏أهلّ‏}‏ ومعناه صحيح على عادة العرب وقصد الغض منها وذلك أنها كانت إذا ساقت ذبيحة إلى صنم جهرت باسم ذلك الصنم وصاحت به، وقوله‏:‏ ‏{‏فمن اضطر‏}‏ قالت فرقة‏:‏ معناه أكره وقال الجمهور‏:‏ معناه اضطره جوع واحتياج، وقرأت فرقة «فمنُ» بضم النون «اضطُر» بضم الطاء، وقرأت فرقة «فمنِ» بكسر النون «اضطِر» بكسر الطاء، على أن الأصل اضطرت، فنقلت حركة الراء إلى الطاء وأدغمت الراء في الراء، وقالت فرقة‏:‏ «الباغي» صاحب البغي على الإمام، أو في قطع الطريق وبالجملة في سفر المعاصي، و«العادي» بمعناه في أنه ينوي المعصية، وقال الجمهور‏:‏ ‏{‏غير باغ‏}‏ معناه غير مستعمل لهذه المحرمات مع وجود غيرها، ‏{‏ولا عاد‏}‏ معناه لا يعدو حدود الله في هذا، وهذا القول أرجح وأعم في الرخصة، وقالت فرقة‏:‏ ‏{‏باغ‏}‏ و‏{‏عاد‏}‏ في الشبع والتزود، واختلف الناس في صورة الأكل من الميتة، فقالت فرقة‏:‏ الجائز من ذلك ما يمسك الرمق فقط، وقالت فرقة‏:‏ بل يجوز الشبع التام، وقالت فرقة منهم مالك رحمه الله‏:‏ يجوز الشبع والتزود، وقال بعض النحويين في قوله ‏{‏عاد‏}‏ إنه مقلوب من عائد، فهو كشاكي السلاح وكيوم راح وكقول الشاعر‏:‏ لأن بها الأشياء والعنبري، وقوله‏:‏ ‏{‏فإن الله غفور رحيم‏}‏، لفظ يقتضي منه الإباحة للمضطر، وخرجت الإباحة في هذه الألفاظ تحرجاً وتضييقاً في أمرها ليدل الكلام على عظم الخطر في هذه المحرمات، فغاية هذا المرخص له غفران الله له وحطه عنه ما كان يلحقه من الإثم لولا ضرورته‏.‏ قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا التحريم الذي ذكرناه يفهمه الفصحاء من اللفظ وليس في المعنى منه شيء وإنما هو إيماء، وكذلك جعل في موضع آخر غايته أن لا إثم عليه، وإن كان لا إثم عليه وقوله هو له مباح يرجعان إلى معنى واحد فإن في هيئة اللفظين خلافاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏116- 119‏]‏

‏{‏وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ‏(‏116‏)‏ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏117‏)‏ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏118‏)‏ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏119‏)‏‏}‏

هذه الآية مخاطبة للكفار الذين حرموا البحائر والسوائب وأحلوا ما في بطون الأنعام وإن كانت ميتة يدل على ذلك قوله حكاية عنهم ‏{‏وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 139‏]‏ والآية تقتضي كل ما كان لهم من تحليل وتحريم فإنه كله افتراء منهم، ومنه ما جعلوه في الشهور، وقرأ السبعة وجمهور الناس «الكَذِبَ» بفتح الكاف وكسر الذال وفتح الباء، و«ما» مصدرية فكأنه قال لوصف ألسنتكم الكذب، وقرأ الأعرج وأبو طلحة وأبو معمر والحسن، «الكذبِ» بخفض الباء على البدل من «ما»، وقرأ بعض أهل الشام ومعَاذ بن جبل وابن أبي عبلة «الكُذُبُ» بضم الكاف والذال والباء على صفحة الألسنة، وقرأ مسلمة بن محارب «الكذبَ» بفتح الباء «الكُذُبَ» بفتح الباء على أنه جمع كذاب ككتب في جمع كتاب، وقوله ‏{‏هذا حلال‏}‏ إشارة إلى ميتة بطون الأنعام وكل ما أحلوا، وقوله ‏{‏وهذا حرام‏}‏ إشارة إلى البحائر والسوائب وكل ما حرموا، وقوله ‏{‏لتفتروا على الله الكذب‏}‏، إشارة إلى قولهم في فواحشهم التي هذه إحداها، وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويحتمل أن يريد أنه كان شرعهم لاتباعهم سنناً لا يرضاها الله افتراء عليه، لأن من شرع أمراً فكأنه قال لأتباعه هذا هو الحق، وهذا مراد الله، ثم أخبرهم الله ‏{‏إن الذين يفترون على الله الكذب‏}‏ لا يبلغون الأمل، و«الفلاح» بلوغ الأمل، فطوراً يكون في البقاء كما قال الشاعر، والصبح والمسى لافلاح معه، ويشبه أن هذه الآية من هذا المعنى، يقوي ذلك قوله ‏{‏متاع قليل‏}‏، وقد يكون في المساعي ومنه قول عبيد‏:‏ بالرجز‏]‏

أفلح بما شئت فقد يبلغ *** بالضعف وقد يخدع الأريب

وقوله ‏{‏متاع قليل‏}‏ إشارة إلى عيشهم في الدنيا، ‏{‏ولهم عذاب أليم‏}‏ بعد ذلك في الآخرة‏.‏ وقوله ‏{‏وعلى الذين هادوا‏}‏ الآية، لما قص تعالى على المؤمنين ما حرم عليهم أعلم أيضاً بما حرم على اليهود ليبين تبديلهم الشرع فيما استحلوا من ذلك وفيما حرموا من تلقاء أنفسهم، وقولهم ‏{‏ما قصصنا عليك‏}‏، إشارة إلى ما في سورة الأنعام «من ذي الظفر والشحوم» الآية‏:‏ ‏{‏وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 146‏]‏ وقوله ‏{‏وما ظلمناهم‏}‏ أي لم نضع العقوبة بتحريم تلك الأشياء عليهم في غير موضعها، بل هم طرقوا إلى ذلك وجاء من تسبيبهم بالمعاصي ما أوجب ذلك‏.‏ وقوله ‏{‏ثم إن ربك للذين عملوا السوء‏}‏ هذه آية تأنيس لجميع العالم، أخبر الله تعالى فيها أنه يغفر للتائب، والآية إشارة إلى الكفار الذين افتروا على الله وفعلوا الأفاعيل المذكورة، فهم إذا تابوا من كفرهم بالإيمان وأصلحوا من أعمال الإسلام غفر الله لهم، وتناولت هذه الآية بعد ذلك كل واقع تحت لفظها من كافر وعاص‏.‏

وقالت فرقة «الجهالة» العمد، و«الجهالة» عندي في هذا الموضع ليست ضد العلم بل هي تعدي الطور وركوب الرأس، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم «أو أجهل أو يجهل علي» وهي التي في قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

ألا لا يجهلنْ أحد علينا *** فنجهلَ فوق جهل الجاهلينا

والجهالة التي هي ضد العلم تصحب هذه الأخرى كثيراً، ولكن يخرج منها المتعمد وهو الأكثر، وقلما يوجد في العصاة من لم يتقدم له علم بخطر المعصية التي يواقع‏.‏ والضمير في ‏{‏بعدها‏}‏ عائد على التوبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏120- 124‏]‏

‏{‏إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏120‏)‏ شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏121‏)‏ وَآَتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏122‏)‏ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏123‏)‏ إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏124‏)‏‏}‏

لما كشف الله تعالى فعل اليهود وتحكمهم في شرعهم بذكر ما حرم عليهم، أراد أن يبين بُعدهم عن شرع إبراهيم والدعوى فيه أن يصف حال إبراهيم ليبين الفرق بين حاله وحال قريش أيضاً، و‏{‏أمة‏}‏ لفظة مشتركة تقع للعين والقامة والجمع الكثير من الناس، ثم يشبه الرجل العالم أو الملك أو المنفرد بطريقة وحده بالناس الكثير فيسمى ‏{‏أمة‏}‏، وعلى هذا الوجه سمي إبراهيم عليه السلام ‏{‏أمة‏}‏، قال ابن مسعود‏:‏ «الأمة» معلم الخير، وكان معاذ بن جبل «أمة قانتاً»، وقال في بعض أوقاته إن معاذاً كان ‏{‏أمة قانتاً‏}‏ فقال قرة الكندي أو فروة بن نوفل‏:‏ ليس كذلك إنما هو إبراهيم، فقال أتدري ما الأمة، هو معلم الخير وكذلك كان معاذ يعلم الخير ويطيع الله ورسوله، وقال مجاهد‏:‏ سمي إبراهيم ‏{‏أمة‏}‏ لانفراد بالإيمان في وقته مدة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وفي البخاري أنه قال لسارة ليس على الأرض اليوم مؤمن غيري وغيرك، وقال بعض النحويين، أظنه أبا الحسن الأخفش‏:‏ «الأمة» فعلة من أم يؤم فهو كالهُزْأة والضحكة أي يؤتم به‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ف ‏{‏أمة‏}‏ على هذا صفة، وعلى القول الأول اسم ليس بصفة، و«القانت» المطيع الدائم على العبادة، و«الحنيف» المائل إلى الخير والإصلاح، وكانت العرب تقول، لمن يختتن ويحج البيت حنيفاً، وحذف النون من «لم يكن» لكثرة الاستعمال كحذفهم من لا أبال ولا أدر، وهو أيضاً يشبه النون في حال سكونها حروف العلة لغنتها وخفتها وأنها قد تكون علامة وغير ذلك، فكأن «لم» دخلت على «يكن» في حال الجزم‏.‏ ولا تحذف النون إذا لم تكن ساكنة في نحو قوله ‏{‏لم يكن الذين كفروا‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 1‏]‏ ولا يحذف في مثل هذا إلا في الشعر فقد جاءت محذوفة، وقوله ‏{‏من المشركين‏}‏ يشير إلى تبرؤ حال إبراهيم عليه السلام من حال مشركي العرب ومشركي اليهود إذ كلهم ادعاه ويلزم الإشراك اليهود من جهة تجسيمهم، و‏{‏شاكراً‏}‏، صفة لإبراهيم تابعة ما تقدم، و«الأنعم» جمع نعمة، و‏{‏اجتباه‏}‏ معناه تخيره، وباقي الآية بين‏.‏ وقوله ‏{‏وآتيناه في الدنيا حسنة‏}‏ الآية، «الحسنة» لسان الصدق وإمامته لجميع الخلق، هذا قول جميع المفسرين وذلك أن كل أمة متشرعة فهي مقرة أن إيمانها إيمان إبراهيم وأنه قدوتها وأنه كان على الصواب‏.‏ وقوله ‏{‏لمن الصالحين‏}‏ بمعنى المنعم عليهم أي من الصالحين في أحوالهم ومراتبهم، أو بمعنى أنه في الآخرة ممن يحكم له بحكم الصالحين في الدنيا، وهذا على أن الآية وصف حاليه في الدارين، ويحتمل أن يكون المعنى وأنه في عمل الآخرة، فعلى هذا هي وصف حالي في الدنيا الدنياوية والأخراوية‏.‏

وقوله ‏{‏ثم أوحينا إليك‏}‏ الآية، الوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم بهذا من جملة الحسنة التي آتاها الله إبراهيم، قال ابن فورك وأمر الفاضل باتباع المفضول لما تقدم إلى الصواب والعمل به و‏{‏أن‏}‏ في قوله ‏{‏أن اتبع‏}‏ مفسرة، ويجوز أن تكون مفعولة، و«الملة» الطريقة في عقائد الشرع، و‏{‏حنيفاً‏}‏ حال، والعامل فيه الفعلية التي في قوله ‏{‏ملة إبراهيم‏}‏، ويجوز أن تكون حالاً من الضمير المرفوع في ‏{‏اتبع‏}‏ قال مكي‏:‏ ولا يكون حالاً من إبراهيم، لأنه مضاف إليه‏:‏ وليس كما قال لأن الحال قد تعمل فيه حروف الخفض إذا عملت في ذي الحال، كقولك مررت بزيد قائماً، وقوله ‏{‏إنما جعل السبت‏}‏ أي لم يكن من ملة إبراهيم وإنما جعله الله فرضاً عاقب به القوم المختلفين فيه، قاله ابن زيد، وذلك أن موسى أمر بني إسرائيل أن يجعلوا من الجمعة يوماً مختصاً بالعبادة وأمرهم أن يكون الجمعة، فقال جمهورهم‏:‏ بل يكون يوم السبت لأن الله فرغ فيه من خلق مخلوقاته، فقال غيرهم‏:‏ بل نقبل ما أمر الله به موسى، فراجعهم الجمهور فتابعهم الآخرون فالزمهم الله يوم السبت إلزاماً قوياً عقوبة لهم منه، فلم يكن منهم ثبوت بل عصوا فيه وتعدوا فأهلكهم، وقرأ الأعمش «إنما أنزلنا السبت»، وهي قراءة ابن مسعود وقرأ أبو حيوة «جَعَل» بفتح الجيم والعين‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وورد في الحديث أن اليهود والنصارى اختلفوا في اليوم الذي يختص من الجمعة فأخذ هؤلاء السبت وهؤلاء الأحد فهدانا الله نحن إلى يوم الجمعة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه»، فليس الاختلاف المذكور في الآية هو الاختلاف الذي في الحديث، وباقي الآية وعيد بين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏125- 128‏]‏

‏{‏ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ‏(‏125‏)‏ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ‏(‏126‏)‏ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ‏(‏127‏)‏ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ‏(‏128‏)‏‏}‏

هذه الآية نزلت بمكة في وقت الأمر بمهادنة المشركين، أمره الله تعالى أن يدعو إلى الله وشرعه بتلطف، وهو أن يسمع المدعو حكمه، وهو الكلام الصواب القريب الواقع في النفس أجمل موقع، ‏{‏والموعظة الحسنة‏}‏ التخويف والترجية والتلطف بالإنسان بأن يحله ويبسطه ويجعله بصورة من يقبل الفضائل، ونحو هذا، فهذه حالة من يُدعَى وحالة من يجادَل دون مخاشنة، ويبين عليه دون قتال، فالكلام يعطي أن جدك وهمك وتعبك لا يغني لأن الله تعالى قد علم من يؤمن منهم ويهتدي، وعلم من يضل، فجملة المعنى اسلك هذا السبيل ولا تعن للمخاشنة لأنها غير مجدية لأن علم الله قد سبق بالمهتدي منهم والضال، وقالت فرقة‏:‏ هذه الآية منسوخة بآية القتال، وقالت فرقة هي محكمة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويظهر لي أن الاقتصار على هذه الحال وأن لا تتعدى مع الكفرة متى احتيج إلى المخاشنة هو منسوخ لا محالة، وأما من أمكنت معه هذه الأحوال من الكفار ورجي إيمانه بها دون قتال فهي محكمة إلى يوم القيامة، وأيضاً فهي محكمة في جهة العصاة، فهكذا ينبغي أن يوعظ المسلمون إلى يوم القيامة‏.‏ وقوله ‏{‏وإن عاقبتم فعاقبوا‏}‏ الآية، أطبق أهل التفسير أن هذه الآية مدنية نزلت في شأن التمثيل بحمزة في يوم أحد، ووقع ذلك في صحيح البخاري، وفي كتاب السير وذهب النحاس إلى أنها مكية‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والمعنى متصل بما قبلها من المكي اتصالاً حسناً لأنها تتدرج الرتب من الذي يدعى ويوعظ إلى الذي يجادل إلى الذي يجازى على فعله، ولكن ما روى الجمهور أثبت، وأيضاً فقوله ‏{‏ولئن صبرتم‏}‏ يقلق بمعنى الآية على ما روى الجميع أن كفار قريش كما مثلوا بحمزة فنال ذلك من نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال «لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بثلاثين»، وفي كتاب النحاس وغيره «بتسعين» منهم فقال الناس‏:‏ «إن ظفرنا لنفعلن ولنفعلن»، فنزلت هذه الآية، ثم عزم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصبر في الآية بعدها، وسمى الإذناب في هذه الآية عقوبة، والعقوبة حقيقة إنما هي الثانية وإنما فعل ذلك ليستوي اللفظان وتتناسب ديباجة القول، وهذا بعكس قوله ‏{‏مكروا ومكر الله‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 54‏]‏، وقوله ‏{‏الله يستهزئ بهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 15‏]‏، فان الثاني هو المجاز، والأول هو الحقيقة، وقرأ ابن سيرين‏:‏ «وإن عقَبتم فعقبوا»، وحكى الطبري عن فرقة‏:‏ أنها قالت إنما نزلت هذه الآية فيمن أصيب بظلامة أن لا ينال من ظالمه إذا تمكن إلا مثل ظلامته لا يتعداه إلى غيره، واختلف أهل العلم فيمن ظلمه رجل في أخذ مال ثم ائتمن الظالم المظلوم على مال تجوز له خيانته في القدر الذي ظلمه، فقالت فرقة‏:‏ له ذلك، منهم ابن سيرين وإبراهيم النخعي وسفيان ومجاهد، واحتجت بهذه الآية وعموم لفظها، وقال مالك وفرقة معه‏:‏ لا يجوز له ذلك، واحتجوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«أدِّ الأمانة إلى من اسأمنك ولا تخن من خانك»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ووقع في مسند ابن سنجر أن هذا الحديث إنما ورد في رجل زنا بامرأة رجل آخر ثم تمكن الآخر من زوجة الثاني بأن تركها عنده وسافر، فاستشار الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له‏:‏ «أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك»، ويتقوى في أمر المال قول مالك رحمه الله، لأن الخيانة لاحقة في ذلك وهي رذيلة لا انفكاك عنها، ولا ينبغي للمرء أن يتأسى بغيره في الرذائل، وإنما ينبغي أن تتجنب لنفسها، وأما الرجل يظلم في المال ثم يتمكن من الانتصاف دون أن يؤتمن فيشبه أن ذلك له جائز يرى أن الله حكم له كما لو تمكن له بالحكم من الحاكم، وقوله‏:‏ ‏{‏واصبر وما صبرك إلا بالله‏}‏ الآية، هذه العزيمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصبر عن المجازاة في التمثيل بالقتلى، قال ابن زيد‏:‏ هذه الآية منسوخة بالقتال وجمهور الناس على أنها محكمة، ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه‏:‏ «أما أنا فأصبر كما أمرت فماذا تصنعون‏؟‏»، قالوا‏:‏ نصبر يا رسول الله كما ندبنا، وقوله‏:‏ ‏{‏وما صبرك إلا بالله‏}‏ أي بمعونة الله وتأييده لك على ذلك، والضمير في قوله ‏{‏عليهم‏}‏ قيل يعود على الكفار أي لا تتأسف على أن لم يسلموا، وقالت فرقة‏:‏ بل يعود على القتلى‏:‏ حمزة وأصحابه الذين حزن عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأول أصوب يكون عود الضمير على جهة واحدة، وقرأ الجمهور في «ضَيْق» بفتح الضاد، وقرأ ابن كثير في «ضِيق» بكسر الضاد ورويت عن نافع وهو غلط ممن رواه، قال بعض اللغويين‏:‏ الكسر والفتح في الضاد لغتان في المصدر وقال أبو عبيدة‏:‏ الضِيق مصدر والضَّيْق مخفف من ضيِّق كميْت وميت، وهيْن وهيِّن، قال أبو علي الفارسي‏:‏ والصواب أن يكون الضيْق لغة في المصدر لأنه إن كان مخففاً من ضيِّق لزم أن تقام الصفة مقام الموصوف، وليس هذا موضع ذلك‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ الصفة إنما تقوم مقام الموصوف إذا تخصص الموصوف من نفس الصفة، كما تقول رأيت ضاحكاً فإنما تخصص الإنسان، ولو قلت‏:‏ رأيت بارداً لم تحسن، وببارد مثل سيبويه رحمه الله «وضيق» لا يخصص الموصوف، وقال ابن عباس وابن زيد‏:‏ إن ما في هذه الآية من الأمر بالصبر منسوخ، وقوله‏:‏ ‏{‏مع الذين‏}‏ أي بالنصر والمعونة والتأييد، و‏{‏اتقوا‏}‏ يريد المعاصي، و‏{‏محسنون‏}‏ معناه يتزيدون فيما ندب إليه من فعل الخير‏.‏

كمل تفسير سورة النحل بعون الله وتأييده

وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم

سورة الإسراء

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ‏(‏1‏)‏‏}‏

لفظ الآية يقتضي أن الله عز وجل أسرى بعبده، وهو محمد عليه السلام، ويظهر أن ‏{‏أسرى‏}‏ هي هنا معداة بالهمزة إلى مفعول محذوف تقديره، أسرى الملائكة بعبده، وكذلك يقلق أن يسند ‏{‏أسرى‏}‏ وهو بمعنى سرى إلى الله تعالى، إذ هو فعل يعطي النقلة كمشى وجرى وأحضر وانتقل، فلا يحسن إسناد شيء من هذا ونحن نجد مندوحة، فإذا صرحت الشريعة بشيء من هذا النحو كقوله في الحديث «أتيته سعياً، وأتيته هرولة» حمل ذلك بالتأويل على الوجه المخلص من نفي الحوادث، و‏{‏أسرى‏}‏ في هذه الآية تخرج فصيحة كما ذكرنا ولا تحتاج إلى تجوز قلق فيمثل هذا اللفظ، فإنه ألزم للنقلة من أتيته و‏{‏أتى الله بنيانهم‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 26‏]‏ ويحتمل أن يكون ‏{‏أسرى‏}‏ بمعنى سرى على حذف مضاف كنحو قوله تعالى ‏{‏ذهب الله بنورهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 17‏]‏ ووقع الإسراء في جميع مصنفات الحديث، وروي عن الصحابة في كل أقطار الإسلام فهو من المتواتر بهذا الوجه، وذكر النقاش عمن رواه عشرين صحابياً، فروى جمهور الصحابة وتلقى جل العلماء منهم أن الإسراء كان بشخصه صلى الله عليه وسلم، وأنه ركب البراق من مكة ووصل إلى بيت المقدس وصلى فيه، وروى حذيفة وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينزل عن البراق في بيت المقدس ولا دخله، قال حذيفة ولو صلى فيه لكتبت عليكم الصلاة فيه، وأنه ركب البراق بمكة ولم ينزل عنه حتى انصرف إلى بيته، إلا في صعوده إلى السماء، وقالت عائشة ومعاوية إنما أسري بنفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفارق شخصه مضجعه وأنها كانت رؤيا رأى فيها الحقائق من ربه عز وجل، وجوزه الحسن وابن إسحاق، والحديث، قال القاضي أبو محمد، مطول في البخاري ومسلم وغيرهما، فلذلك اختصرنا نصه في هذا الباب، وركوب البراق على قول هؤلاء يكون من جملة ما رأى في النوم، قال ابن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن في كتاب الطبري‏:‏ البراق هو دابة إبراهيم الذي كان يزور عليه البيت الحرام‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ يريد أن يجيء من يومه ويرجع وذلك من مسكنه بالشام، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور، ولو كانت منامة ما أمكن قريشاً التشنيع ولا فضل أبو بكر بالتصديق، ولا قالت له أم هاني‏:‏ لا تحدث الناس بهذا فيكذبوك إلى غير هذا من الدلائل، واحتج لقول عائشة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 60‏]‏، ويحتمل القول الآخر لأنه يقال لرؤية العين رؤيا، واحتج أيضاً بأن في بعض الأحاديث‏:‏ فاستيقظت وأنا في المسجد الحرام وهذا محتمل أن يريد من الإسراء إلى نوم، واعترض قول عائشة بأنها كانت صغيرة لم تشاهد ولا حدثت عن النبي عليه السلام، وأما معاوية فكان كافراً في ذلك الوقت غير مشاهد للحال صغيراً، ولم يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله‏:‏ ‏{‏سبحان‏}‏ مصدر غير متمكن لأنه لا يجري بوجوه الإعراب ولا تدخل عليه الألف واللام ولم يجر منه فعل، وسبح إنما معناه قال سبحان الله فلم يستعمل سبح إلا إشارة إلى ‏{‏سبحان‏}‏، ولم ينصرف لأن في آخره زائدتين وهو معرفة بالعلمية وإضافته لا تزيده تعريفاً، هذا كله مذهب سيبويه فيه، وقالت فرقة‏:‏ قال القاضي أبو محمد‏:‏ نصبه على النداء كأنه قال‏:‏ «يا سبحان»، قال القاضي أبو محمد الذي، وهذا ضعيف ومعناه تنزيهاً لله، وروى طلحة بن عبيد الله الفياض أحد العشرة أنه قال للنبي صلى الله عليه ولم ما معنى سبحان الله‏؟‏ قال‏:‏

«تنزيهاً لله من كل سوء»، والعامل فيه على مذهب سيبويه الفعل الذي هو من معناه لا من لفظه إذ يجر من لفظه فعل، وذلك مثل قعد القرفصاء واشتمل الصماء، فالتقدير عنده أنزه الله تنزيهاً فوقع ‏{‏سبحان‏}‏ مكان قولك تنزيهاً، وقال قوم من المفسرين‏:‏ ‏{‏أسرى‏}‏ فعل غير متعد عداه هنا بحرف جر تقول سرى الرجل وأسرى إذ سار بالليل بمعنى، وقد ذكرت ما يظهر في اللفظ من جهة العقيدة، وقرأ حذيفة وابن مسعود «أسرى بعبده من الليل من المسجد الحرام»، وقوله من ‏{‏المسجد الحرام‏}‏، قال أنس بن مالك‏:‏ أراد المسجد المحيط بالكعبة نفسها ورجحه الطبري وقال‏:‏ هو الذي يعرف إذا ذكر هذا الاسم، وروى الحسن بن أبي الحسن عن النبي عليه السلام أنه قال‏:‏ «بينا أنا نائم في الحجر إذ جاءني جبريل والملائكة»، الحديث بطوله‏.‏ وروى قوم أن ذلك كان بين زمزم والمقام، وروى مالك بن صعصعة عن النبي عليه السلام‏:‏ «بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان»، وذكر عبد بن حميد الكشي في تفسيره عن سفيان الثوري أنه قال‏:‏ أسري بالنبي عليه السلام من شعب أبي طالب، وقالت فرقة‏:‏ ‏{‏المسجد الحرام‏}‏ مكة كلها واستندوا إلى قوله تعالى ‏{‏لتدخلن المسجد الحرام‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 27‏]‏ وعظم المقصد هنا إنما هو مكة، وروى بعض هذه الفرقة عن أم هاني أنها قالت‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء في بيتي، وروي بعضها عن النبي عليه السلام، أنه قال‏:‏ «خرج سقف بيتي» وهذا يلتئم مع قول أم هاني، وكان الإسراء فيما قال مقاتل قبل الهجرة بعام، وقاله قتادة، وقيل بعام ونصف، قاله عروة عن عائشة وكان ذلك في رجب، وقيل في ليلة سبع عشرة من شهر ربيع الأول والنبي صلى الله عليه وسلم ابن إحدى وخمسين سنة وتسعة أشهر وثمانية وعشرين يوماً، والمتحقق أن ذلك كان بعد شق الصحيفة، وقبل بيعة العقبة، ووقع في الصحيحين لشريك بن أبي نمر وهم في هذا المعنى فإنه روى حديث الإسراء فقال فيه‏:‏ وذلك قبل الوحي إليه، ولا خلاف بين المحدثين أن هذا وهم من شريك، و‏{‏المسجد الأقصى‏}‏، مسجد بيت المقدس، وسماه ‏{‏الأقصى‏}‏ أي في ذلك الوقت كان أقصى بيوت الله الفاضلة من الكعبة، ويحتمل أن يريد ب ‏{‏الأقصى‏}‏ البعيد دون مفاضلة بينه وبين سواه، ويكون المقصد إظهار العجب في الإسراء إلى هذا البعد في ليلة‏.‏

و «البركة حوله» هي من جهتين، إحداهما النبوءة والشرائع والرسل الذين كانوا في ذلك القطر وفي نواحيه وبواديه، والأخرى النعم من الأشجار والمياه والأرض المفيدة التي خص الله الشام بها، وروي عن النبي عليه السلام أنه قال‏:‏ «إن الله بارك فيما بين العريش إلى الفرات وخص فلسطين بالتقديس» وقوله‏:‏ ‏{‏لنريه من آياتنا‏}‏ يريد لنري محمداً بعينه آياتنا في السماوات والملائكة والجنة والسدرة وغير ذلك مما رآه تلك الليلة من العجائب، ويحتمل أن يريد لنري محمداً للناس آية، أي يكون النبي صلى الله عليه وسلم آية في أن يصنع الله ببشر هذا الصنع وتكون الرؤية على هذا رؤية قلب، ولا خلاف أن في هذا الإسراء فرضت الصلوات الخمس على هذه الأمة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إنه هو السميع البصير‏}‏ وعيد من الله للكفار تكذيبهم محمداً في أمر الإسراء، فهي إشارة لطيفة بليغة إلى ذلك أي ‏{‏هو السميع‏}‏ لما تقولون ‏{‏البصير‏}‏ بأفعالكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏2- 4‏]‏

‏{‏وَآَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا ‏(‏2‏)‏ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ‏(‏3‏)‏ وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ‏(‏4‏)‏‏}‏

عطف قوله‏:‏ ‏{‏وآتينا‏}‏ على ما في قوله ‏{‏أسرى بعبده‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 1‏]‏ من تقدير الخبر، كأنه قال أسرينا بعبدنا وأريناه آياتنا، و‏{‏الكتاب‏}‏ التوراة، والضمير في ‏{‏جعلناه‏}‏ يحتمل أن يعود على ‏{‏الكتاب‏}‏ ويحتمل أن يعود على ‏{‏موسى‏}‏‏.‏ وقوله ‏{‏ألا تتخذوا‏}‏ يجوز أن تكون «أن» في موضع نصب بتقدير كراهية أن موضع خفض بتقدير لأن لا تتخذوا، ويجوز أن تكون «أن» مفسرة بمعنى أي كما قال ‏{‏أن امشوا واصبروا‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 6‏]‏ فهي في هذا مع أمر موسى وهي في آياتنا هذه مع نهي، والمعنى مع هذه التقديرات فعلنا ذلك لئلا تتخذوا يا ذرية، ويحتمل أن يكون ‏{‏ذرية‏}‏ مفعولاً، ويحتمل أن تكون «أن» زائدة ويضمر في الكلام قول تقديره قلنا لهم‏:‏ لا تتخذوا، وأما أن يضمر القول ولا تجعل «أن» زائدة فلا يتجه، لأن ما بعد القول إما يكون جملة تحكى، وإما أن يكون ترجمة عن كلام لا هو بعينه، فيعمل القول في الترجمة كما تقول لمن قال‏:‏ لا إله إلا الله قلت حقاً، وقوله‏:‏ ‏{‏ألا تتخذوا‏}‏ ليس بواحد من هذين، قاله أبو علي وقرأ جمهور الناس «تتخذوا» بالتاء على المخاطبة، وقرأ أبو عمرو وحده «ألا يتخذوا» بالياء على لفظ الغائب، وهي قراءة بن عباس ومجاهد وقتادة وعيسى وأبي رجاء، و«الوكيل» هنا فعيل من التوكل أي متوكلاً عليه في الأمور، فهو ند لله بهذا الوجه، قال مجاهد ‏{‏وكيلاً‏}‏ شريكاً، وقرأ جمهور الناس «ذُرية» بضم الذال وقرأ مجاهد بفتحها، وقرأ زيد بن ثابت وأبان بن عثمان ومجاهد أيضاً بكسرها، وكل هذا بشد الراء والياء، ورويت عن زيد بن ثابت بفتح الذال وتسهيل الراء وشد الياء على وزن فعيلة، و‏{‏ذرية‏}‏ وزنها فعولة، أصلها ذرورة، أبدلت الراء الثانية ياء كما قالوا قصيت شعري أي قصصته، ثم قلبت الواو ياء وأدغمت ثم كسرت الراء لتناسب الياء، وكل هؤلاء قرؤوا ‏{‏ذرية‏}‏ بالنصب، وذلك متجه إما على المفعول ب «يتخذوا» ويكون المعنى أن لا يتخذ بشر إلهاً من دون الله، وإما على النداء أي يا ذرية، فهذه مخاطبة للعالم، قال قوم‏:‏ وهذا لا يتجه إلا على قراءة من قرأ «تتخذوا» بالتاء من فوق، ولا يجوز على قراءة من قرأ «ويتخذوا» بالياء لأن الفعل الغائب والنداء لمخاطب والخروج من الغيبة إلى الخطاب إنما يستسهل مع دلالة الكلام على المراد، وفي النداء لا دلالة إلا على التكلف، وإما على النصب بإضمار أعني وذلك متجه على القراءتين على ضعف النزعة في إضمار أعني، وإما على البدل من قوله ‏{‏وكيلاً‏}‏ وهذا أيضاً فيه تكلف، وقرأت فرقة «ذريةٌ» بالرفع على البدل من الضمير المرفوع في «يتخذوا» وهذا إنما يتوجه على القراءة بالياء، ولا يجوز على القراءة بالتاء لأنك لا تبدل من ضمير مخاطب لو قلت‏:‏ ضربتك زيداً على البدل لم يجز، وقوله‏:‏ ‏{‏ذرية من حملنا مع نوح‏}‏ إنما عبر بهذه العبارة عن الناس الذين عناهم في الآية بحسب الخلاف المذكور لأن في هذه العبارة تعديد النعمة على الناس في الإنجاء المؤدي إلى وجودهم، ويقبح الكفر والعصيان مع هذه النعمة، والذين حملوا مع نوح وأنسلوا هم بنوه لصلبه لأنه آدم الأصغر، وكل من على الأرض اليوم من نسله هذا قول الجمهور ذكره الطبري عن قتادة ومجاهد وإن كان معه غيرهم فلم ينسل قال النقاش‏:‏ اسم نوح عبد الجبار، وقال ابن الكلبي‏:‏ اسمه فرج، ووصفه ب «الشكر» لأنه كان يحمد الله في كل حال وعلى كل نعمة على المطعم والمشرب والملبس والبراز وغير ذلك صلى الله عليه وسلم، قاله سلمان الفارسي وسعيد بن مسعود وابن أبي مريم وقتادة، وقوله‏:‏ ‏{‏وقضينا إلى بني إسرائيل‏}‏ الآية، قال الطبري‏:‏ معنى ‏{‏قضينا‏}‏ فرغنا وحكي عن غيره أنه قال‏:‏ ‏{‏قضينا‏}‏ هنا بمعنى أخبرنا، وحكي عن آخرين أنهم قالوا ‏{‏قضينا‏}‏ معناه في أم الكتاب‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق بن عطية رضي الله عنه‏:‏ وإنما يلبس في هذا المكان تعدية ‏{‏قضينا‏}‏ ب ‏{‏إلى‏}‏، وتلخيص المعنى عندي أن هذا الأمر هو مما قضاه الله تعالى في أم الكتاب على بني إسرائيل وألزمهم إياه ثم أخبرهم به في التوراة على لسان موسى‏.‏ فلما أراد هنا الإعلام لنا بالأمرين جميعاً في إيجاز، جعل ‏{‏قضينا‏}‏ دالة على النفوذ في أم الكتاب، وقرن بها دالة على إنزال الخير بذلك إلى بني إسرائيل، والمعنى المقصود مفهوم خلال هذه الألفاظ، ولهذا فسر ابن عباس مرة بأن قال ‏{‏قضينا إلى بني إسرائيل‏}‏ معناه أعلمناهم، وقال مرة‏:‏ معناه قضينا عليهم‏.‏ و‏{‏الكتاب‏}‏ هنا التوراة لأن القسم في قوله ‏{‏لتفسدن‏}‏ غير متوجه مع أن يجعل ‏{‏الكتاب‏}‏ هو اللوح المحفوظ، وقرأ سعيد بن جبير وأبو العالية الرياحي «في الكتب» على الجمع، قال أبو حاتم‏:‏ قراءة الناس على الإفراد، وقرأ الجمهور «لتُفسِدن» بضم التاء وكسر السين، وقرأ عيسى الثقفي «لَتفسُدُن» بفتح التاء وضم السين والدال، وقرأ ابن عباس ونصر بن عاصم وجابر بن زيد «لتُفسَدُن» بضم التاء وفتح السين وضم الدال‏.‏ وقوله ‏{‏ولتعلن‏}‏ أي لتتجبرون عن طاعة الأمرين بطاعة الله وتطلبون في الأرض العلو والفساد وتظلمون من قدرتم على ظلمة ونحو هذا‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ومقتضى هذه الآيات أن الله تعالى أعلم بني إسرائيل في التوراة أنه سيقع منهم عصيان وطغيان وكفر لنعم الله تعالى عندهم في الرسل والكتب وغير ذلك، وأنه سيرسل عليهم أمة تغلبهم وتقتلهم وتذلهم، ثم يرحمهم بعد ذلك، ويجعل لهم الكرّة ويردهم إلى حالهم الأولى من الظهور، فيقع منهم المعاصي وكفر النعم والظلم والقتل والكفر بالله من بعضهم، فيبعث الله عليهم أمة أخرى تخرب ديارهم وتقتلهم وتجليهم جلاء مبرحاً، وأعطى الوجود بعد ذلك هذا الأمر كله وقيل‏:‏ كان بين «المرتين» آخر الأولى وأول الثانية مائتَا سنة وعشر سنين ملكاً مؤبداً بأنبياء وقيل سبعون سنة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 7‏]‏

‏{‏فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا ‏(‏5‏)‏ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ‏(‏6‏)‏ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ‏(‏7‏)‏‏}‏

الضمير في قوله ‏{‏أولاهما‏}‏ عائد على قوله ‏{‏مرتين‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 4‏]‏ وعبر عن الشر ب «الوعد» لأنه قد صرح بذكر المعاقبة، وإذا لم يجيء «الوعد» مطلقاً فجائز أن يقع في الشر، وقرأ علي بن أبي طالب والحسن بن أبي الحسن «عبيداً»، واختلف الناس في العبيد المبعوثين، وفي صورة الحال اختلافاً شديداً متباعداً عيونه‏:‏ أن بني إسرائيل عصوا وقتلوا زكرياء عليه السلام فغزاهم سنحاريب ملك بابل، وكذا قال ابن إسحاق وابن جبير، وقال ابن عباس‏:‏ غزاهم جالوت من أهل الجزيرة وروي عن عبد الله بن الزبير أنه قال في حديث طويل‏:‏ غزاهم آخراً ملك اسمه خردوس، وتولى قتلهم على دم يحيى بن زكرياء قائد لخردوس اسمه بيورزاذان، وكف عن بني إسرائيل وسكن بدعائه دم يحيى بن زكرياء، وقيل غزاهم أولاً صنحابين ملك رومة، وقيل بختنصر، وروي أنه دخل في جيش من الفرس وهو خامل يسير في مطبخ الملك فاطلع من جور بني إسرائيل على ما لم تعلمه الفرس لأنه كان يداخلهم، فلما انصرف الجيش ذكر ذلك الملك الأعظم، فلما كان بعد مدة جعله الملك رئيس جيش، وبعثه فخرب بيت المقدس وقتلهم وجلاهم ثم انصرف فوجدوا الملك قد مات فملك موضعه، واستمرت حاله حتى ملك الأرض بعد ذلك، وقالت فرقة‏:‏ إنما غزاهم بختنصر في المرة الأخيرة حين عصوا وقتلوا يحيى بن زكرياء، وصورة قتله‏:‏ أن الملك أراد أن يتزوج بنت امرأته فنهاه يحيى عنها فعز ذلك على امرأته، فزينت بنتها وجعلتها تسقي الملك الخمر وقالت لها‏:‏ إذا راودك الملك عن نفسك فتمنعي حتى يعطيك الملك ما تتمنين، فإذا قال لك تمني علي ما أردت، فقولي رأس يحيى بن زكرياء‏:‏ ففعلت الجارية ذلك فردها الملك مرتين وأجابها في الثالثة، فجيء بالرأس في طست ولسانه يتكلم وهو يقول لا تحل لك، وجرى دم يحيى فلم ينقطع فجعل الملك عليه التراب حتى ساوى سور المدينة والدم ينبعث، فلما غزاهم الملك الذي بعث الله عليهم بحسب الخلاف الذي فيه، قتل منهم على الدم حتى سكن بعد قتل سبعين ألفاً، هذا مقتضى هذا الخبر، وفي بعض رواياته زيادة ونقص، فروت فرقة‏:‏ أن أشعياء النبي عليه السلام وعظهم في بعض الأمر وذكرهم الله ونعمه في مقام طويل قصة الطبري، وذكر أشعياء في آخره محمداً صلى الله عليه وسلم وبشر به فابتدره بنو إسرائيل، ففر منهم فلقي شجرة فتفلقت له حتى دخلها فالتأمت عليه، فعرض الشيطان عليهم هدبة من ثوبه فأخذوا منشاراً فنشروا الشجرة وقطعوه في وسطها فقتلوه، فحينئذ بعث الله عليهم في المرة الآخرة، وذكر الزهراوي عن قتادة قصصاً، أن زكرياء هو صاحب الشجرة وأنهم قالوا لما حملت مريم‏:‏ ضيع بنت سيدنا حتى زنت فطلبوه فهرب منهم حتى دخل في الشجرة فنشروه، وروت فرقة أن بختنصر كان حفيد سنحاريب الملك الأول، وروت فرقة أن الذي غزاهم آخراً هو سابور ذو الأكناف، وقال أيضاً ابن عباس سلط الله عليهم حين عادوا ثلاثة أملاك من فارس سندابادان وشهرياران، وآخر، وقال مجاهد‏:‏ إنما جاءهم في الأولى عسكر من فارس «فجاس خلال الديار» وتغلب ولكن لم يكن قتال، ولا قتل في بني إسرائيل، ثم انصرفت عنهم الجيوش وظهروا وأمدوا بالأموال والبنين حتى عصوا وطغوا فجاءهم في المرة الثانية من قتلهم وغلبهم على بيضتهم وأهلكهم آخر الدهر، وقوله عز وجل ‏{‏فجاسوا خلال الديار‏}‏ وهي المنازل والمساكن‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة‏}‏ يرد على قول مجاهد إنه لم يكن في المرة الأول غلبة ولا قتال وهل يدخل المسجد إلا بعد غلبة وقتال، وقد قال مؤرج، «جاسوا خلال الأزقة»، وقد ذكر الطبري في هذه الآية قصصاً طويلاً منه ما يخص الآيات وأكثره لا يخص وهذه المعاني ليست بالثابت فلذلك اختصرتها، وقوله ‏{‏بعثنا‏}‏ يحتمل أن يكون الله بعث إلى ملك تلك الأمة رسولاً يأمره بغزو بني إسرائيل فتكون البعثة بأمر ويحتمل أن يكون عبر بالبعث عما ألقي في نفس الملك الذي غزاه وقرأ الناس «فجاسوا» بالجيم، وقرأ أبو السمال «فحاسوا» بالحاء وهما بمعنى الغلبة والدخول قسراً ومنه الحواس، وقيل لأبي السمال إنما القراءة «جاسوا» بالجيم فقال «جاسوا وحاسوا» واحد‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فهذا يدل على تخير لا على رواية، ولهذا لا تجوز الصلاة بقراءته وقراءة نظرائه، وقرأ الجمهور‏:‏ «خلال»، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «خللَ» ونصبه في الوجهين على الظرف، وقوله ‏{‏ثم رددنا لكم الكرة‏}‏، الآية عبارة عما قاله الله لبني إسرائيل في التوراة وجعل ‏{‏رددنا‏}‏ موضع نرد إذ وقت إخبارهم لم يقع الأمر بعد لكنه لما كان وعد الله في غاية الثقة أنه يقع عبر عن مستقبله بالماضي، وهذه الكرة هي بعد الجلوة الأولى لما وصفنا، فغلبت بنو إسرائيل على بيت المقدس وملكوا فيه، وحسنت حالهم برهة من الدهر، وأعطاهم الله الأموال والأولاد، وجعلهم إذا نفروا إلى أمر أكثر الناس، قال الطبري معناه وصيرناكم أكثر عدد نافر منهم، قال قتادة‏:‏ كانوا ‏{‏أكثر نفيراً‏}‏ في زمن داود عليه السلام، و«نفير» يحتمل أن يكون جمع نفر ككلب وكليب، وعبد وعبيد، ويحتمل أن يكون فعيلاً بمعنى فاعل أي وجعلناكم أكثر نافراً‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وعندي أن النفر اسم لا جمع الذي نفر سمي بالمصدر، وقد قال تبع الحميري‏:‏ ‏[‏المتقارب‏]‏‏.‏

فأكرم بقحطان من والد *** وحمير أكرم بقوم نفيرا

وقالوا‏:‏ لا في العير ولا في النفير، يريدون جمع قريش الخارج من مكة لا بإذن، فلما قال الله لهم إني سأفعل بكم هكذا عقب ذلك بوصيتهم في قوله ‏{‏إن أحسنتم‏}‏ والمعنى أنكم بعملكم تؤخذون لا يكون ذلك ظلماً ولا تسرعاً إليكم، و‏{‏وعد الآخرة‏}‏ معناه من المرتين المذكورتين، وقوله ‏{‏ليسوءوا‏}‏ اللام لام أمر، وقيل المعنى بعثناهم ‏{‏ليسوءوا‏}‏ فهي لام كي كلها، والضمير للعباد «أولي البأس الشديد»، وقرأ الجمهور‏:‏ «ليسوءوا» بالياء جمع همزة وبين واوين، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وابن عامر «ليسوءَ» بالياء وهمزة مفتوحة على الإفراد، وقرأ الكسائي، وهي مروية عن علي بن أبي طالب «لنسوء» بنون العظمة، وقرأ أبي بن كعب «لنسوءن» بنون خفيفة، وهي لام الأمر، وقرأ علي بن أبي طالب «ليسوءن»، وهي لام القسم والفاعل الله عز وجل، وفي مصحف أبي بن كعب «ليُسيء» بياء مضمومة بغير واو، وفي مصحف أنس «ليسوء وجهكم» على الإفراد، وخص ذكر «الوجوه» لأنها المواضيع الدالة على ما بالإنسان من خير أو شر، و‏{‏المسجد‏}‏ مسجد بيت المقدس، و«تبر» معناه أفسد بقسم وركوب رأس، وقوله ‏{‏ما علوا‏}‏ أي ما غلبوا عليه من الأقطار وملكوه من البلاد، وقيل ‏{‏ما‏}‏ ظرفية والمعنى مدة علوهم وغلبتهم على البلاد، و«تبر» معناه رد الشيء فتاتاً كتبر الذهب والحديد، ونحوه وهو مفتتة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 11‏]‏

‏{‏عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ‏(‏8‏)‏ إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ‏(‏9‏)‏ وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏10‏)‏ وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا ‏(‏11‏)‏‏}‏

يقول الله عز وجل لبقية بني إسرائيل ‏{‏عسى ربكم‏}‏ إن أطعتم في أنفسكم واستقمتم ‏{‏أن يرحمكم‏}‏، و‏{‏عسى‏}‏ ترجّ في حقهم وهذه العدة ليست برجوع دولة وإنما هي بأن يرحم المطيع منهم، وكان من الطاعة اتباعهم لعيسى ومحمد فلم يفعلوا وعادوا إلى الكفر والمعصية، فعاد عقاب الله فضرب عليهم الذل وقتلهم وأذلهم بيد كل أمة، وهنا قال ابن عباس سلط عليهم ثلاثة ملوك، و«الحصير» فعيل من الحصر فهو بمعنى السجن أي يحصرهم، وبنحو هذا فسر مجاهد، وقتادة وغيرهما، ويقال «الحصير» أيضاً من الحصر للملك ومنه قول لبيد‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

ومقامة غلب الرقاب كأنهم *** جن لدى باب الحصير قيام

ويقال لجنى الإنسان الحصيران لأنهما يحصرانه ومنه قول الطرماح‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

قليلاً تتلى حاجة ثم غولبت *** على كل معروش الحصيرين بادن

وقال الحسن البصري في الآية‏:‏ أراد ما يفترش ويبسط كالحصير المعروف عن الناس‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وذلك الحصير أيضاً هو مأخوذ، من الحصر، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن هذا القرآن‏}‏ الآية، ‏{‏يهدي‏}‏ في هذه الآية بمعنى يرشد، ويتوجه فيها أن تكون بمعنى يدعو، و‏{‏التي‏}‏ يريد بها الحالة والطريقة، وقالت فرقة، ‏{‏للتي هي أقوم‏}‏ لا إله إلا الله‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والأول أعم وكلمة الإخلاص وغيرها من الأقوال داخلة في الحال «التي هي أقوم» من كل حال تجعل بازائها، والاقتصار على ‏{‏أقوم‏}‏ ولم يذكر من كذا إيجاز، والمعنى مفهوم، أي ‏{‏للتي هي أقوم‏}‏ من كل ما غايرها فهي النهاية في القوام، وقيد المؤمنين بعمل الصالحات إذ هو كمال الإيمان وإن لم يكن في نفسه، والمؤمن المفرط في العمل له بإيمانه حظ في عمل الصالحات‏:‏ و«الأجر الكبير» الجنة، وكذلك حيث وقع في كتاب الله فضل كبير وأجر كبير فهو الجنة، وقوله ‏{‏أن‏}‏ الأولى في موضع نصب ب ‏{‏يبشر‏}‏، و‏{‏أن‏}‏ الثانية عطف على الأولى، وهي داخلة في جملة بشارة المؤمنين، بشرهم القرآن بالجنة، وأن الكفار لهم عذاب أليم، وذلك أن علم المؤمنين بهذا مسرة لهم، وفي هذه البشارة وعيد للكفار بالمعنى، هذا الذي تقتضيه ألفاظ الآية، وقرأ الجمهور، «ويُبَشِّر» بضم الياء وفتح الباء وكسر الشين، وقرأ ابن مسعود ويحيى ين وثاب وطلحة «ويَبْشُر» بفتح الياء وسكون الباء وضم الشين، و‏{‏أعتدنا‏}‏ معناه أحضرنا وأعددنا ومنه العتاد، و«الأليم» الموجع، وقوله ‏{‏ويدع الإنسان‏}‏ الآية، سقطت الواو من ‏{‏يدع‏}‏ في خط المصحف لأنهم كتبوا المسموع، وقال ابن عباس وقتادة ومجاهد‏:‏ هذه الآية نزلت ذامة لما يفعله الناس من الدعاء على أموالهم وأبنائهم في وقت الغضب والضجر، فأخبر الله أنهم يدعون بالشر في ذلك الوقت كما تدعون بالخير في وقت التثبت، فلو أجاب الله دعاءهم أهلكهم، لكنه يصفح ولا يجيب دعاء الضجر المستعجل، ثم عذر بعض العذر في أن الإنسان له عجلة فطرية، و‏{‏الإنسان‏}‏ هنا قيل يريد به الجنس بحسب ما في الخلق من ذلك قاله مجاهد وغيره، وقال سلمان الفارسي وابن عباس‏:‏ إشارته إلى آدم في أنه لما نفخ الروح في رأسه عطس وأبصر فلما مشى الروح في بدنه قبل ساقيه أعجبته نفسه فذهب ليمشي مستعجلاً لذلك فلم يقدر وأشارت ألفاظ هذه الآية إلى هذا والمعنى فأنتم ذووعجلة موروثة من أبيكم، ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل أسيراً في قيْد في بيت سودة بنت زمعة فسمعت سودة أنينه فأشفقت فقالت له ما بالك‏؟‏ فقال‏:‏ ألم القيد، فقالت‏:‏ فأرخت من ربطه فسكت، ثم نامت، فتحيل في الانحلال وفر، فطلبه رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصبح، فأخبر الخبر، فقال قطع الله يدها ففزعت سودة ورفعت يديها نحو السماء وهي تخاف الإجابة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«إن الله قد جعل دعائي في مثل هذا رحمة على المدعو عليه، لأني بشر أغضب وأعجل، فلترد سودة يديها»، وقالت فرقة هذه الآية نزلت في شأن قريش الذين قالوا ‏{‏اللهم إن كان الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 32‏]‏، وكان الأولى أن يقولوا فاهدنا إليه وارحمنا به فذمهم الله تعالى في هذه الآية بهذا، وقالت فرقة‏:‏ معنى هذه الآية‏:‏ معاتبة الناس على أنهم إذا نالهم شر وضرعوا وألحوا في الدعاء الذي كان يجب أن يدعوه في حالة الخير ويلتزمه من ذكر الله وحمده والرغبة إليه، لكنه يقصر حينئذ، فإذا مسه ضر ألح واستعجل الفرج، فالآية على هذا من نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا مس الإنسان الضر دعَانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضُر مسه‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 12‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 14‏]‏

‏{‏وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا ‏(‏12‏)‏ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا ‏(‏13‏)‏ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ‏(‏14‏)‏‏}‏

«الآية» العلامة المنصوبة للنظر والعبرة، وقوله ‏{‏فمحونا‏}‏ قالت فرقة‏:‏ سبب تعقيب الفاء أن الله تعالى خلق الشمس والقمر مضيئين فمحا بعد ذلك القمر محاه جبريل بجناحيه ثلاثة مرات فمن هنالك كلَفُه وكونه منيراً فقط، وقالت فرقة، وهو الظاهر‏:‏ إن قوله ‏{‏فمحونا‏}‏ إنما يريد في أصل خلقته، وهذا كما تقول بنيت داري فبدأت بالأس، ثم تابعت فلا تريد بالفاء التعقيب، وظاهر لفظ الآية يقتضي أربع آيات لا سيما لمن بنى على أن القمر هو الممحو والشمس هي المبصرة، فأما إن قدر الممحو في إظلام الليل والإبصار في ضوء النهار أمكن أن تتضمن الآية ‏{‏آيتين‏}‏ فقط، على أن يكون فيها طرف من إضافة الشيء إلى نفسه، وقوله ‏{‏مبصرة‏}‏ مثل قولك ليل قائم ونائم أي ينام فيه ويقام، فكذلك «آية مبصرة» أي يبصر بها ومعها، وحكى الطبري عن بعض الكوفيين أنه قال‏:‏ قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ سلوا عما شئتم فقال ابن الكوّا‏:‏ ما السواد الذي في القمر‏؟‏ فقال له علي‏:‏ قاتلك الله هلا سألت عن أم دينك وآخرتك ذلك محو الليل وجعل الله تعالى النهار مبصراً ليبتغي الناس الرزق، وفصل الله، وجعل القمر مخالفاً للشمس ليعلم به العدد من السنين والحساب للأشهر وللأيام، ومعرفة ذلك في الشرع إنما هو من جهة القمر لا من جهة الشمس، وقوله ‏{‏كل شيء‏}‏ منصوب بفعل مضمر يدل عليه الظاهر تقديره وفصلنا كل شيء فصلناه تفصيلاً وقيل‏:‏ و‏{‏كل‏}‏ عطف على ‏{‏والحساب‏}‏ فهو معمول ‏{‏لتعلموا‏}‏، والتفصيل البيان بأن تذكر فصول ما بين الأشياء وتزال أشباهها حتى يتميز الصواب من الشبه العارضة فيه، وقوله ‏{‏وكل إنسان ألزمناه طائره‏}‏ الآية، قوله ‏{‏كل‏}‏ منصوب بفعل مقدر، وقرأ الحسن وأبو رجاء ومجاهد؛ «طيره في عنقه»، قال ابن عباس ‏{‏طائره‏}‏ ما قدر له وعليه، وخاطب الله العرب في هذه الآية بما تعرف، وذلك أنه كان من عادتها التيمن والتشاؤم بالطير في كونها سانحة وبارحة وكثر ذلك حتى فعلته بالظبا وحيوان الفلاة، وسميت ذلك كله تطيراً، وكانت تعتقد أن تلك الطيرة قاضية بما يلقى الإنسان من خير وشر، فأخبرهم الله تعالى في هذه الآية في أوجز لفظ وأبلغ إشارة أن جميع ما يلقى الإنسان من خير وشر قد سبق به القضاء‏.‏ وألزم حظه وعمله وتكسبه في عنقه، وروى جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لا عدوى ولا طيرة» ‏{‏وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه‏}‏ فعبر عن الحظ والعمل إذ هما متلازمان ب «الطائر»، قال مجاهد وقتادة بحسب معتقد العرب في التطير، وقولهم في أمور على الطائر الميمون، وبأسعد طائر ومنه طار في المحاجة والسهم كقول أم العلا الأنصارية فطار لنا من القادمين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة عثمان بن مظعون، أي كان ذلك حظنا، وأصل هذا كله من الطير التي تقضي عندهم بلقاء الخير والشر وأبطل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم

«لا عدوى ولا طيرة»، وقوله ‏{‏في عنقه‏}‏ جرى أيضاً على مقطع العرب في أن تنسب ما كان إلزاماً وقلادة وأمانة ونحو هذا إلى العنق كقولهم‏:‏ دمي في عنق فلان وكقول الأعشى‏:‏

والشعر قلدته سلامة ذا *** فائش والشيء حيثما جعلا

وهذا كثير، ونحوه جعلهم ما كان تكسباً وجناية وإثماً منسوباً إلى اليد إذ هي الأصل في التكسب، وقرأ أبو جعفر ونافع والناس «ونخرج» بنون العظمة «كتاباً» بالنصب، وقرأ الحسن ومجاهد وابن محيصن‏:‏ و«يخرُج» بفتح الياء وضم الراء على الفعل المستقبل «كتاباً» أي طائره الذي كني به عن عمله يخرج له ذا كتاب، وقرأ الحسن من هؤلاء «كتابٌ» بالرفع، وقرأ أبو جعفر أيضاً «ويُخرَج» بضم الياء وفتح الراء على ما لم يسم فاعله، «كتاباً» أي طائره، وقرأ أيضاً «كتاباً» وقرأت فرقة «ويُخرِج» بضم الياء وكسر الراء أي يخرج الله، وفي مصحف أبي بن كعب «في عنقه يقرؤه يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً»، وهذا الكتاب هو عمل الإنسان وخطيئاته، وقرأ الجمهور «يَلْقاه» بفتح الياء وسكون اللام وخفة القاف، وقرأ ابن عامر وحده، «يُلَقّاه» بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف وهي قراءة الحسن بخلاف، وأبي جعفر والجحدري، وقوله ‏{‏اقرأ كتابك‏}‏ حذف من الكلام يقال له اختصار الدلالة الظاهرة عليه، و«الحسيب» الحاسب ونصبه على التمييز، وأسند الطبري عن الحسن أنه قال‏:‏ يا بن آدم بسطت لك صحيفتك ووكل بك ملكان كريمان أحدهما عن يمينك يكتب حسناتك والآخر عن شمالك يحفظ سيئاتك، فاعمل ما شئت أو قلل أو أكثر حتى إذا مت طويت صحيفتك فجعلت في عنقك معك في قبرك حتى تخرج يوم القيامة كتاباً تلقاه منشوراً ‏{‏اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً‏}‏ قد عدل والله فيك من جعلك حسيب نفسك‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فعلى هذه الألفاظ التي ذكر يكون الطائر ما يتحصل مع آدم من عمله في قبره فتأمل لفظه، وهذا هو قول ابن عباس وقال قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏اقرأ كتابك‏}‏ إنه سيقرأ يومئذ من لم يكن يقرأ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 17‏]‏

‏{‏مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ‏(‏15‏)‏ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ‏(‏16‏)‏ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ‏(‏17‏)‏‏}‏

معنى هذه الآية أن كل أحد إنما يحاسب عن نفسه لا عن غيره، وروي أن سببها أن الوليد بن المغيرة المخزومي قال لأهل مكة‏:‏ اكفروا بمحمد وإثمكم علي، فنزلت هذه الآية، أي إن الوليد لا يحمل إثمكم وإنما إثم كل واحد عليه، وقالت فرقة نزلت الإشارة في الهدى إلى أبي سلمة بن عبد الأسد، والإشارة بالضلال إلى الوليد بن المغيرة، و‏{‏وزر‏}‏ معاه حمل، والوزر الثقل، ومنه وزير السلطان أي يحمل ثقل دولته، وبهذه الآية نزعت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها في الرد على من قال‏:‏ إن الميت يعذب ببكاء الحي عليه، ونكتة ذلك المعنى إنما هي أن التعذيب إنما يعنّ إذا كان البكاء من سنة الميت، وسببه كما كانت العرب تفعل وقوله ‏{‏وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً‏}‏ قالت فرقة هي الجمهور‏:‏ هذا في حكم الدنيا، أي إن الله لا يهلك أمة بعذاب إلا من بعد الرسالة إليهم والإنذار، وقالت فرقة‏:‏ هذا عام في الدنيا والآخرة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وتلخيص هذا المعنى‏:‏ أن مقصد الآية في هذا الموضع الإعلام بعادة الله مع الأمم في الدنيا، وبهذا يقرب الوعيد من كفار مكة، ويؤيد ما يجيء بعد من وصفه ما يكون عند إرادته إهلاك قرية، ومن إعلامه بكثرة ما أهلك من القرون ومع هذا فالظاهر من كتاب الله في غير هذا الموضع ومن النظر أن الله تعالى لا يعذب في الآخرة إلا بعد بعثة الرسل، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 8-9‏]‏، وظاهر ‏{‏كلما‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 8‏]‏ الحصر، وكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن من أمة إلا خلا فيها نذير‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 24‏]‏، وأما من جهة النظر فإن بعثة آدم عليه السلام بالتوحيد وبَثِ المعتقدات في نبيه مع نصب الأدلة الدالة على الصانع مع سلامة الفطر يوجب على كل أحد من العالم الإيمان واتباع شريعة الله، ثم تجدد ذلك في مدة نوح عليه السلام بعد غرق الكفار، وهذه الآية أيضاً يعطي احتمال ألفاظها نحو هذا، ويجوز مع الفرض وجود قوم لم تصلهم رسالة وهم أهل الفترات الذين قد قدر وجودهم بعض أهل العلم، وأما ما روي من أن الله تعالى يبعث إليهم يوم القيامة وإلى المجانين والأطفال فحديث لم يصح ولا يقتضيه ما تعطيه الشريعة من أن الآخرة ليس دار تكليف، وقوله ‏{‏وإذا أردنا أن نهلك قرية‏}‏ الآية، في مصحف أبي «بعثنا أكابر مجرميها»، و«القرية»، المدينة المجتمعة مأخوذ من قريت الماء في الحوض إذا جمعته وليست من قرأ الذي هو مهموز، وإن كان فيها جمعاً معنى الجمع، وقرأ الجمهور «أمَرنا» على صيغة الماضي من أمر ضد نهي، وقرأ نافع، وابن كثير في بعض ما روي عنهما، «آمرنا» بمد الهمزة بمعنى كثرنا، ورويت عن الحسن، وهي قراءة علي بن أبي طالب وابن عباس بخلاف عنه وعن الأعرج، وقرأ بها ابن إسحاق، تقول العرب‏:‏ أمر القوم إذا كثروا، وآمرهم الله بتعدي الهمزة وقرأ أبو عمرو بخلاف‏:‏ «أمّرنا» بتشديد الميم، وهي قراءة أبي عثمان النهدي وأبي العالية وابن عباس، ورويت عن علي بن أبي طالب، وقال الطبري،‏:‏ القراءة الأولى معناها أمرناهم بالطاعة فعصوا وفسقوا فيها وهو قول ابن عباس وابن جبير، والثانية معناها كثرناهم، والثالثة هي من الإمارة أي ملكناهم على الناس، قال القاضي أبو محمد‏:‏ قال أبو علي الفارسي‏:‏ الجيد في «آمرنا» أن تكون بمعنى كثرنا فتعدي الفعل بلفظه غير متعد كما تقول رجع ورجعته وشتر عينه وشترتها فتقول آمر القوم وآمرهم الله أي كثرهم، قال «وآمرنا» مبالغة في «أمرنا» بالهمزة، و«أمّرنا» مبالغة فيه بالتضعيف، ولا وجه لكون «أمّرنا» من الإمارة لأن رياستهم لا تكون إلا واحداً بعد واحد والإهلاك إنما يكون في مدة واحد منهم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وينفصل عن هذا الذي قاله أبو علي بأن الأمر وإن كان يعم المترف وغيره فخص المترف بالذكر إذ فسقه هو المؤثر في فساد القرية وهم عظم الضلالة، وسواهم تبع لهم وأما «أمّرنا» من الإمارة فمتوجه على وجهين، أحدهما أن لا يريد إمارة الملك بل كونهم يأمرون ويؤتمر لهم، فإن العرب تقول لمن يأمر الإنسان وإن لم يكن ملكاً هو أميره، ومنه قول الأعشى‏:‏ ‏[‏المتقارب‏]‏

إذا كان هادي الفتى في البلاد *** صدر القناة أطاع الأميرا

ومنه قول معاوية لعمر رضي الله عنه حين أمره بالاستقادة من لطمة عمرو بن العاص، إن علي أميراً لا أقطع أمراً دونه، أراد معاوية رضي الله عنه أباه وأراد الأعشى أنه إذا شاخ الإنسان وعمي واهتدى بالعصا أطاع كل من يأمره، ومنه قول الآخر‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

والناس يلحون الأمير إذ هم *** خطئوا الصواب ولا يلام المرشد

وأيضاً فلو أراد إمارة الملك في الآية لحسن المعنى، لأن الأمة إذا ملك الله عليها مترفاً ففسق ثم ولي مثله بعده، ثم كذلك عظم الفساد وتوالى الكفر واستحقوا العذاب فنزل بهم على الرجل الأخير من ملوكهم، وقرأ الحسن ويحيى بن عمر «أمِرنا» بكسر الميم وحكاها النحاس عن ابن عباس، ولا أتحقق وجهاً لهذه القراءة إلا إن كان أمر القوم يتعدى بلفظه، فإن العرب تقول آمر بنو فلان إذا كثروا، ومنه قول لبيد‏:‏

إن يغبُطوا يهبطوا وإن أمروا *** يوماً يصيروا للقل والنفد

ومنه‏:‏ لقد أمر أمر ابن أبي كبشة، ورد القراء هذه القراءة، وقد حكي أمر متعدياً عن أبي زيد الأنصاري، و«المترف» الغني من المال المتنعم، والترفة النعمة، وفي مصحف أبي بن كعب‏:‏ «قرية بعثنا أكابر مجرميها فمكروا فيها»، وقوله ‏{‏فحق عليها القول‏}‏ أي وعيد الله لها الذي قاله رسولهم، والتدمير الإهلاك، مع طمس الآثار وهدم البناء، ومنه قول الفرزدق‏:‏ ‏[‏المتقارب‏]‏

وكان لهمْ ككبرِ ثمود لمّا *** رغا دهراً فدمرهم دمارا

وقوله ‏{‏وكم أهلكنا‏}‏ الآية ‏{‏كم‏}‏ في موضع نصب ب ‏{‏أهلكنا‏}‏ وهذا الذكر لكثرة من أهلك الله ‏{‏من القرون‏}‏ مثال لقريش ووعيد، أي لستم ببعيد مما حصلوا فيه من العذاب إذا أنتم كذبتم نبيكم، واختلف الناس في القرن، فقال ابن سيرين‏:‏ عن النبي عليه السلام أربعون، وقيل غير هذا مما هو قريب منه، وقال عبد الله بن أبي أوفى القرن مائة وعشرون سنة، وقالت طائفة القرن مائة سنة، وهذا هو الأصح الذي يعضده الحديث في قوله عليه السلام «خير الناس قرني»، وروى محمد بن القاسم في ختنه عبد الله بن يسر، قال وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على رأسي، وقال سيعيش هذا الغلام قرناً قلت‏:‏ كم القرن‏؟‏ قال مائة سنة، قال محمد بن القاسم، فما زلنا نعد له حتى أكمل مائة سنة ومات رحمه الله، والباء في قوله ‏{‏بربك‏}‏ زائدة التقدير وكفى بربك، وهذه الباء إنما تجيء في الأغلب في مدح أو ذم وكأنها تعطي معنى اكتف بربك أي ما أكفاه في هذا، وقد تجيء ‏{‏كفى‏}‏ دون باء كقول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا *** وكقول الآخر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

ويخبرني عن غائب الأمر هديه *** كفى الهدي عما غيب المرء مخبرا